في الوقت الذي سرّعت فيه الولايات المتحدة وتركيا و»قوات سورية الديمقراطية» المناقشات المتعلقة بإقامة منطقة آمنة محتملة في شمال شرق سورية في الأسابيع الأخيرة، أضافت رسالة مفاجئة في 6 مايو بُعداً جديداً على المحادثات، ففي أعقاب أول لقاء لزعيم «حزب العمال الكردستاني» عبدالله أوجلان مع محامين منذ ثماني سنوات، أصدر مذكرة تدعو إلى إجراء «مفاوضات ديمقراطية» بين «قوات سورية الديمقراطية» التي يقودها الأكراد وأنقرة لتعزيز «الديمقراطية المحلّية المنصوص عليها دستورياً ضمن إطار سورية الموحدة».

وترى مصادر مطّلعة على الوضع أن توقيت رسالته كان يهدف إلى تسهيل التوصّل إلى اتفاق بشأن المنطقة الحدودية في شمال شرق سورية، حيث تسيطر «قوات سورية الديمقراطية»، بقيادة «وحدات حماية الشعب» المتفرّعة من «حزب العمال الكردستاني» الذي يحظى بدعم الولايات المتحدة على تلك المناطق.

Ad

وتتفاوض تركيا وواشنطن منذ شهور بشأن خطة تقوم على تنظيم دوريات مشتركة في منطقة آمنة تمتد على مسافة اثنين وثلاثين كلم تقريباً إلى داخل سورية، وعلى انسحاب «قوات سورية الديمقراطية» من جميع المناطق العازلة «إلّا أن طول ونقاط النهاية المحتملة لهذه المناطق لا تزال غير واضحة».

وفي هذا الإطار، ذكر ممثلو «قوات سورية الديمقراطية» أنّ المسؤولين الأميركيين يضغطون عليهم للسماح لعدد محدود من القوات التركية بالدخول إلى هذه المنطقة المقترحة، ووفقاً لذلك، فإن بيان أوجلان قد يشجع الجماعة على اتباع المزيد من المرونة فيما يتعلق بهذه الأمور.

ورغم أن صانعي السياسة في الولايات المتحدة يعربون عن ثقتهم في إمكان التوصل إلى مثل هذه الصفقة وتنفيذها، إلا أنّ التاريخ الحديث يجب أن يعطي المتفائلين مهلةً للتفكير في الأمر، فإذا فشلت المحادثات، فقد تقرّر القوات التركية الدخول إلى شمال شرق سورية بمحض إرادتها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف ستردّ «قوات سورية الديمقراطية» على إقامة منطقة عازلة من جانب واحد؟

طالما وصف مسؤولو «قوات سورية الديمقراطية» احتمال انتشار الجيش التركي في معقلهم الشمالي الشرقي كأفكار فلن تحقق نجاحاً، فهم يدركون أن أنقرة تنظر إلى «وحدات حماية الشعب» كنتاج مباشر لـ»حزب العمال الكردستاني»، الذي قاد حركة تمرد في تركيا منذ عام 1984 وصنفته السلطات التركية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كجماعة إرهابية، ووفقاً لذلك يخشى كل من «وحدات حماية الشعب» وجناحها السياسي من أن أي تقدّم تحرزه تركيا في شمال شرق البلاد سيشكل تهديداً وجودياً للحركة بأكملها.

ولا تبشر التجربة الأخيرة بالخير بالنسبة إلى إمكانية استدامة مشاركة تركيا أيضاً، ففي أعقاب مفاوضات طويلة، اتفقت واشنطن وأنقرة في يونيو الماضي على خارطة طريق لطرد «قوات سورية الديمقراطية» من منبج التي تقع غرب نهر الفرات مباشرة، حيث يبدأ الإقليم الرئيس التابع لـ»وحدات حماية الشعب»، ولكن الاتفاق لم يتحقق بعد على نحو كامل، فالدوريات الأميركية-التركية المشتركة التي دعت إليها الاتفاقية لم تبدأ إلا بعد عدة أشهر من التوصل إلى اتفاق، ولا يزال مقاتلو «قوات سورية الديمقراطية» في المدينة، في حين لا تزال الاشتباكات المتفرقة تندلع بين الميليشيات المدعومة من تركيا ووحدات «قوات سورية الديمقراطية». ويشير الوضع القائم إلى أنه حتى لو تم التوصّل إلى اتفاق على الورق بين الأطراف المعنية بشأن شمال شرق البلاد، إلّا أن تنفيذه يطرح تحديات كبيرة.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أعلن سابقاً أنّ هدفه هو «القضاء على الهياكل الإرهابية في منبج وشرق الفرات»، وكان قد حذّر مراراً وتكراراً من أنه سينشئ منطقة عازلة أحادية الجانب في تلك المناطق إذا فشلت المحادثات الأميركية. فما الذي سيحدث إذا تدخلت تركيا؟

لا يمكن التوقع من «قوات سورية الديمقراطية» أن تدافع بنجاح عن أراضيها ضدّ تركيا بدون مساعدة التحالف الذي تترأسه الولايات المتحدة.

ونظراً إلى النجاح الملحوظ الذي حقّقته «وحدات حماية الشعب»، فضلاً عن «قوات سورية الديمقراطية» في وقت لاحق، في دحر تنظيم «الدولة الإسلامية»، يبالغ المراقبون الخارجيون في تقدير مدى قدرة هذه القوات على الاعتماد على نفسها ضدّ عدو عسكري تقليدي.

على سبيل المثال، لم يكن بإمكانها الدفاع عن كوباني أو الاستيلاء على الرقة ومنبج ومعظم محافظة دير الزور من دون مساعدة القوات الجوية للتحالف، فقد أصبحت قواتها البرية قوية للغاية بفضل شراكتها مع القوات الخاصة الغربية، والعناصر الاستخباراتية، والدعم الجوي الوثيق. ولولا هذا الدعم، لما استطاعت على الأرجح الصمود في وجه الهجوم الذي تشنه القوات المقاتلة بالوكالة بدعم تركي، ناهيك عن الجيش التركي نفسه. ويصحّ ذلك بوجه خاص مع طبيعة الأرض المستوية التي لا تصبّ في مصلحتها في شمال شرق سورية. فحتى عندما حاولت «وحدات حماية الشعب» أن تدافع عن جيبها الجبلي الغربي في عفرين- وهي أرض أكثر مناسبة بكثير للحرب غير النظامية- استطاعت القوات المدعومة من تركيا الاستيلاء عليها في غضون أشهر.

وفي ضوء هذه الحقائق العسكرية، لا تملك «قوات سورية الديمقراطية» أي حافز لإعطاء تركيا ذريعة إضافية لمزيد من التدخلات، أو لإعطاء واشنطن سبباً لسحب دعمها، وبالتالي، فإن أي انطباع بأن «حزب العمال الكردستاني» قد ينشّط حملته المسلحة في تركيا لردع العدوان على فرعه السوري كان خاطئاً على الأرجح حتى قبل رسالة أوجلان الأخيرة.

فمنذ بداية الحرب السورية، أعطت «وحدات حماية الشعب» و»قوات سورية الديمقراطية» الأولوية لتمييز حملاتهما عن صراع «حزب العمال الكردستاني» في تركيا، ويدرك المسؤولون الأكراد جيداً أن وقوع أعمال عنف أخرى من جانب «حزب العمال الكردستاني» سيؤدي إلى تحركات تركية مضادة على جانبي الحدود.

وفي الواقع، إذا ضعف دعم التحالف، فمن المحتمل أن تحاول «قوات سورية الديمقراطية» إبرام اتفاق مع بشار الأسد وروسيا من أجل حماية المنطقة الشمالية الشرقية، فمنذ أن عززت سيطرتها على المنطقة، تعاونت «وحدات حماية الشعب» و»قوات سورية الديمقراطية» عموماً مع نظام الأسد. على سبيل المثال، حافظ النظام على سيطرته في بعض الجيوب في القامشلي والحسكة التي تسيطر عليهما «وحدات حماية الشعب» منذ عام 2011 مع احتكاكات ضئيلة إلى جانب مناوشات عرضية.

ومع ذلك، تدرك «قوات سورية الديمقراطية» جيداً كيف يمكن أن تكون دمشق وموسكو حليفين متقلبين، كما تَبيّن أثناء الاستيلاء التركي على عفرين، فقد أدّى سحب روسيا للقوات من ذلك الجيب وفتح النظام المجال الجوي لتركيا إلى تمهيد الطريق لذلك الهجوم، وبعد شهر من بدء العملية، دعت «وحدات حماية الشعب» بصورة ملحة إلى مساعدة الأسد، ولكن حتى الوجود المحدود للميليشيات المرتبطة بالنظام لم يتمكّن من وقف القوات التي تدعمها تركيا.

وفي الحقيقة، لا ترغب دمشق في تعزيز قوة الأكراد على الرغم من أنها سارعت إلى نجدتهم في بعض الأحيان.

ويريد الأسد الذي أصبح الآن أكثر جرأة حثّ (جماعات مقاتلة في) أجزاء أخرى من سورية على الخضوع، في حين تتعارض مطامح «وحدات حماية الشعب»- المعلنة والمتمثلة بإنشاء كيان تعددي شبه مستقل في الشمال الشرقي من البلاد - مع رؤية النظام.

ربما يكون الحفاظ على التماسك الداخلي أخطر تهديد قد تواجهه «قوات سورية الديمقراطية» إذا تدخلت تركيا من جانب واحد، إذ تشير بيانات الاستقصاءات إلى أن العناصر العربية للجماعة ستنشق إذا أتيحت لها الفرصة، سواء أكانت القوى المعارضة المعنية تابعة لأردوغان أم الأسد. وعلى الرغم من الطبيعة المختلطة الأعراق لـ»قوات سورية الديمقراطية»، فقد أذعن معظم العرب السُّنة في شمال شرق سورية للإدارة المحلية التي يسيطر عليها الأكراد، ويعزى ذلك أساساً لأنها ضمنت الدعم الأميركي واحتكار القوة، وإذا تحدّت القوات المدعومة من تركيا هذا الاحتكار وسط دعم متقلّب من جانب قوات التحالف، فبإمكان الانشقاقات العربية الواسعة النطاق أن تجعل من «قوات سورية الديمقراطية» جماعة كردية بصورة أساسية.

وفي هذا السيناريو، من المرجح أن يضطر ما تبقّى من «قوات سورية الديمقراطية» ذو الأغلبية الكردية الساحقة إلى الانسحاب من المناطق العربية-الكردية المختلطة أو ذات الغالبية العربية مثل منبج، وتل أبيض، والرقة ودير الزور، والتراجع إلى جيوبها الكردية المعزولة من أجل الحفاظ على ما تبقى لها من قدر محدود من استقلال ذاتي وسلطة.

وبذلك، ستخسر في الوقت نفسه أفضل وسيلة ضغط للمساومة مع نظام الأسد في حين تُقلّص بدرجة كبيرة من فائدتها للولايات المتحدة وحلفاء التحالف الآخرين، الذين يريدون الحفاظ على قوة شريكة في المناطق ذات الغالبية العربية والتي تبدو أكثر عرضة لظهور تنظيم «الدولة الإسلامية» من جديد.

وباختصار، يمكن للتوغل التركي أن يفكّك «قوات سورية الديمقراطية»، وإذا فشلت المفاوضات الحالية، فيجب على صانعي السياسة في الولايات المتحدة أن يدركوا أن السماح لأنقرة بإنشاء منطقة عازلة أحادية الجانب قد يؤدي أساساً إلى القضاء على أفضل حليف للتحالف في سورية. وبهدف ضمان حمايتها، ستضطر «قوات سورية الديمقراطية» إلى السعي للتوصل إلى اتفاق مع نظام الأسد وروسيا، مما يضعف النفوذ الأميركي في المنطقة بشكل حاسم.

جون هولاند *