تحوَّل دور «الشرير» في أفلام محمود المليجي، إلى علاج من الرُهاب «الفوبيا»، فقد نال منه الخوف من الأماكن الضيقة، ومشاهد العنف، وركوب المصعد، والأزمات المالية، والتضحية باستقراره في منزل والده من أجل الفن، وانتقلت أصداء تجاربه القاسية في الحياة إلى أدواره على الشاشة، كنوع من تخفيف وطأتها على ذاته المرهفة، وتأهيل شخصيته المسالمة للتعامل مع المواقف الصعبة. ورغم هذا كان مُهاباً إزاء الكاميرا، وأوقعته ملامحه ونظراته الحادة في مواقف طريفة مع زملائه.

مفارقات تثير الدهشة، مارسها عملاق الشر محمود المليجي في حياته، فقد اتجه في صدر شبابه إلى رياضة الملاكمة، لكنه اعتزلها مبكراً، ولاحقاً إلى هواية صيد الطيور في مدينة الفيوم (جنوب القاهرة)، وكان يمتلك بندقية صيد مرخصة، ويطلقها على كائنات مسالمة، وهذا يتعارض مع إصابته بالإغماء في نقابة الممثلين، عندما رأى الطباخ يذبح دجاجة.

Ad

ذات مرة صعد درج منزله، ليأتي بالمصعد الذي كان معلقاً في أحد الطوابق، لكن الباب أغلق على نصف جسده، وتعرض لموت محقق، ورغم ذلك وافق على دور «النشال» في فيلم «بين السماء والأرض»1960 للمخرج صلاح أبوسيف، وتكدس مع زملائه في مصعد معطل، كأنه يقاوم «الفوبيا» في حياته الخاصة، ويتحدى نقيض ذاته بتجسيد أدوار العنف والإجرام على الشاشة، ويحصد تصفيق الجمهور وإشادة النقاد بما يقدمه من أدوار فارقة على الشاشة البيضاء.

مصارعة الثيران

كان «عملاق الشر» على موعد آخر مع «الفوبيا» عندما طار إلى إسبانيا في عام 1956، ليشارك في فيلم «روما فيلم» إنتاج ماري كويني وإحدى شركات الإنتاج السينمائي الإيطالية، وأمضى هناك أربعة أشهر كاملة، بدأت بنزوله من الطائرة في وقت متأخر من الليل، ولم يكن أحد في استقباله في مطار مدريد، ومعه فقط عنوان الفندق الذي سيقيم فيه، وبعد خروجه من منطقة الجمرك، حمل حقائبه قاصداً مكتب استبدال العملات، وفوجئ بأن هذا الإجراء من اختصاص البنك، وكانت الساعة تجاوزت الواحدة صباحاً، وانتابته حالة من الاضطراب، وتملكه شعور بالخوف والاغتراب، فقد حل في بلد غريب لا يعرفه فيه أحد. ولاحظ موظفو المطار ارتباك المسافر المصري، وعندما عرفوا أنه ممثل مشهور في بلده، أقرضوه بعض النقود، واستقل «تاكسي» إلى الفندق. وفي صباح اليوم التالي ذهب إلى البنك، واستبدل النقود، وسدَّد المبلغ الذي استدانه.

بدت هذه الرحلة بالنسبة إليه كأنه سافر إلى بلاد العجائب، وكان صديقه لويس فلسطين يقيم في مدريد، ودعاه إلى الغداء لتناول أفضل «أكلة شعبية» معروفة لدى الإسبان. فعلاً، ذهب المليجي في الموعد المحدد، وارتصت الأطباق عامرة بألوان شتى من الأطعمة، ولاحظ الممثل أن طبقاً كبيراً يتوسط المائدة، وبدأ يأكل من الأصناف الأخرى، ويخشى الاقتراب من ذلك الطبق، ولكن دفعه الفضول إلى الاستفسار من صديقه عن نوع هذا الطعام، فقال: «هذا طعام مصنوع من يرقات الثعابين»، فتلبد وجه «الشرير» وجحظت عيناه، وغادر المكان مسرعاً، وصديقه يركض خلفه ضاحكاً.

انشغل المليجي بكواليس «روما فيلم» وجاءه صديقه مُجدداً، وأخبره بأنه حصل على تذكرتين لحضور مصارعة الثيران، وسيلعب فيها أحد المصارعين الكبار، ويتقاضى في الجولة ألفي جنيه، وبأن التذكرتين تسمحان لهما بالدخول إلى الأقبية.

فعلاً ذهب معه، وشاهد اللاعبين يرتدون ملابسهم، والثيران تقف في الحظائر، والكنيسة التي يصلي فيها اللاعبون قبل دخولهم الحلبة.

بعد جولة الأقبية، أخذا مكانهما في المدرجات التي تتسع لنحو 200 ألف متفرج، ودخل إلى الحلبة 18 مصارعاً يرتدون ملابسهم المزركشة، واثنان يمتطيان صهوة جوادين، ويحملان سيفين، وفُتح الباب ليدخل الثور.

كان الثور يعاني إصابات واضحة، وبدأ يركض والمصارعون يلتفون من حوله، وكأنهم يلاعبونه، وفجأة أصابته أول حربة. حينها تعاطف «الشرير» مع هذا «الثور» المسكين، والطعنات تتوالى عليه من كل جانب، حتى أنهكت قواه تماماً، وبعدها جاء دور النجم الذي يأخذ ألفي جنيه في الجولة، ممسكاً الرداء الأحمر، وتعالت صيحات الجمهور، والثور يلف حول الرداء، وجاءت طعنة النهاية.

تعاطف المليجي مع الثور الذي تلقى هذه الطعنات كافة، وعاتب صديقه على هذه الدعوة إلى أعنف رياضة شاهدها في حياته، وكاد أن يغشى عليه، ولكن صيحات الجمهور، شتتت تركيزه مع المشهد الدامي، وقرر أن يتوخى الحذر بعد «غداء يرقات الثعابين» و«مصارعة الثيران». من ثم، اكتفى بجولات حرة في شوارع مدريد، ولاحظ أن أسماءها نصفها باللغة العربية والنصف الآخر بالإسبانية، وأن الإسبانيين يخلدون أبطالهم بطبع صورهم على العملات الورقية.

الغرفة الرهيبة

بعد انتهاء تصوير «روما فيلم» أشاد المخرج الإيطالي بأداء المليجي الباهر، مؤكداً أنه لا يجب أن يترك فرصة المشاركة في أفلام عالمية. لكن الممثل المصري عاد إلى القاهرة، واستقل «تاكسي» إلى شارع البرازيل في حي الزمالك، وصعد إلى شقته وكان خصص لنفسه غرفة منعزلة أطلق عليها «غرفة المزاج»، حيث يختلي بنفسه ساعات طويلة، ويقرأ سيناريوهات الأفلام التي تعرض عليه، ويمارس هوايته في التأليف، وقد حوت الغرفة مكتبة عامرة بشتى مجلدات الفكر والمعرفة.

كان المليجي على موعد مع «الغرفة الرهيبة»، وزادت آنذاك حماسته لأفلام مخرجي الواقعية، وحجز لنفسه أفضل أدواره على الشاشة.

وكادت هذه الحماسة أن تفضي إلى كارثة، عندما شارك الممثل في بطولة فيلم «المتهم» 1957، مع كل من علوية جميل، وحسين رياض، وشريفة ماهر، والمطرب الشعبي محمد عبدالمطلب، فيما كتب القصة السيد بدير.

دارت الأحداث حول متهم يحكم عليه بالإعدام، وأراد كمال عطية (المخرج وكاتب السيناريو والحوار) أن يمنح الجمهور معايشة حقيقية، فقرر الذهاب مع «المتهم» إلى السجن العمومي، والتصوير في «غرفة الإعدام».

كان المليجي اختلى بنفسه في «غرفة المزاج» ليقرأ سيناريو «المتهم»، ولم يفكر في أنه سيخرج من غرفته الأثيرة إلى أخرى، تصيب كثيرين بالذعر عند ذكر اسمها، وتخيل أن هذا المشهد سيمثله داخل «البلاتوه». ولكن المخرج كمال عطية كان له رأي آخر، وقال ضاحكاً: «يا أستاذ محمود حضر نفسك غداً لدخول غرفة الإعدام»، فسأله المليجي مندهشاً: «فين؟»، قال: «أمام السجن العمومي». وهنا انتفض «شرير الشاشة» مكرراً: «فين؟ مستحيل... مش ممكن»، فقال عطية: «لا تخف. أخذنا التصريح والأمور ستكون على ما يرام».

عاد المليجي إلى شقته، واتجه مباشرة إلى «غرفة المزاج» وجلس إلى مكتبه، وأشعل سيجارة، ثم أخرج أوراق السيناريو من الدرج، وتصفحها حتى وصل إلى مشهد الإعدام. حينها تملكته قشعريرة الخوف، وقرأ دوره بصوت مرتجف، وطوى الأوراق مُجدداً، ليطارده الأرق والنوم المضطرب حتى الصباح.

وصل «المتهم» في الموعد المحدد، ووجد المخرج وطاقم التصوير في انتظاره. صعد معهم إلى زنزانة حقيقية، وجدها مبتلة بالمياه، واقتضى المشهد أن يرتدي البدلة الحمراء، ويمشي حافي القدمين من الزنزانة إلى الغرفة الرهيبة، وهو لم يكن بحاجة إلى تعليمات المخرج، فقد ترك نفسه على سجيتها، وتعايش مع الشخصية، كأنه فعلاً محكوم بالإعدام. لكنه لاحظ أن قدميه لونهما أحمر، فنادى على عامل النظافة، فطمأنه الأخير وطلب إليه ألا يقلق موضحاً له أن بدلته ابتلت بالماء، وسال منها اللون الأحمر. ولكن اتضح لاحقاً أنها دماء سجين منتحر!

وأفاق «المتهم» من شروده على صوت المخرج: «جاهز يا أستاذ محمود؟»، فأومأ له برأسه إيجاباً. دخل جنديان قيدا معصميه، وحملاه من أسفل كتفيه، وشعر حينها بأنه يطير، واقتاداه إلى غرفة الإعدام. خفف من رهبته أن الكاميرا تلاحقه، وهناك وجد «عشماوي» الحقيقي (منفذ أحكام الإعدام) ومساعديه، وهيئة تنفيذ الحكم، وأجرى معهم تمريناً للمشهد، وكان تصوير أصعب لقطات عملاق الشر على الشاشة.

الضابط وشكسبير

لم تنته علاقة المليجي بالمخرج كمال عطية، وتعاونا مجدداً في فيلم «الشوارع الخلفية» 1974، عن قصة عبدالرحمن الشرقاوي، وتدور أحداثه في حي شعبي بالقاهرة خلال فترة الثلاثينيات حتى الخمسينيات من القرن الماضي.

شارك المليجي في بطولته مع كل من سناء جميل، ونور الشريف، وماجدة الخطيب، ومحمد توفيق، ليخلع ملابس «المتهم» ويرتدي بدلة الضابط شكري عبدالمتعال الذي يرفض إطلاق النار على المتظاهرين، ويحال إلى التقاعد، ويدفعه شعوره الوطني إلى المشاركة في تظاهرة ضد الاحتلال البريطاني.

وجمعت المليجي وعطية لقاءات متعددة حول مشروع سينمائي ضخم، لتحويل أعمال شكسبير إلى سلسلة أفلام برؤية عصرية، لا سيما أن النجم المصري أدى معظم هذه الأدوار في المسرح، مثل «عطيل» و«الملك لير» و«ماكبث». لكنهما لم يجدا المنتج المتحمس للفكرة، وتعرضا لهجوم شرس من بعض النقاد، بزعم أن تراث شكسبير لا يمس! من ثم، تلاشى بريق الفكرة التي نفذتها السينما المصرية مع أعمال كتاب آخرين، مثل «البؤساء» للفرنسي فيكتور هوغو، و«الجريمة والعقاب» للروسي فيودور ديستويفسكي، و«آنا كارنينا» للروسي ليو تولستوي.

هكذا حلق المليجي مع الأفكار الجريئة، وراودته الأحلام بأعمال سينمائية ضخمة، لكن الإمكانات الإنتاجية ظلت معوقاً إزاء ظهورها على الشاشة. واعتبر «الشرير» أن تراث شكسبير وغيره من كتاب عمالقة يصلح تقديمه في كل عصر، لما يحمله من جوانب إنسانية شديدة العمق، وتشريح للنفس البشرية، على أن يتوازى ذلك مع موهبة ضخمة لكاتب السيناريو والمخرج والممثل وسائر فريق العمل.

غروب وشروق

لم يتوقف المليجي عن معايشة الشخصيات التي يجسدها، ليتجرد من «محمود المليجي» ولا يحاول أن يمثل دور طبيب أو محامٍ أو مهندس. كان يقرأ السيناريو كاملاً، ويسأل نفسه: ماذا سأفعل لو كنت مكان هذا الشخص؟ ويرسم ملامح انفعالاته وإيماءاته وملابسه، ويذهب إلى «البلاتوه» ويندمج تماماً في الأداء إزاء الكاميرا.

وفي غمار تجربته مع مخرجي الواقعية، تعددت أفلام المليجي مع كمال الشيخ الذي لفت الأنظار إليه، كمخرج متمرد على الأفكار النمطية، ويحمل موهبة متوهجة في تحريك الكاميرا، وزوايا التصوير، والإيقاع التشويقي للفيلم، لا سيما أنه بدأ حياته مونتيراً لكثير من الأفلام. وفي العام 1952، قدم فيلم «المنزل رقم 13» بطولة فاتن حمامة وعماد حمدي، وأدى «الشرير» دور منوّم مغناطيسي يستغل ضحاياه في تنفيذ جرائمه.

ويعد «غروب وشروق» 1970 أحد أبرز أعمال المليجي مع الشيخ. دارت أحداثه في الفترة السابقة لثورة يوليو 1952، وأدى دور الباشا رئيس القسم السياسي، الذي يعاني حياة مضطربة بين سلوكه العنيف مع المعتقلين السياسيين، وبين تدليله الزائد لابنته المستهترة. كتب قصة الفيلم جمال حماد، والسيناريو رأفت الميهي، وشارك في بطولته كل من سعاد حسني، ورشدي أباظة، وصلاح ذوالفقار، وإبراهيم خان.

وفي أثناء العرض الخاص، انتبه الشيخ إلى أن المشهد الأخير الذي يصور لحظة القبض على «الباشا» سيُحدث قدراً من التعاطف معه، وأن قوة اندماج وتأثر الفنان محمود المليجي أكبر من الدرجة المطلوبة، ونظراته المعبرة عن الانكسار إلى ابنته، ستؤدي إلى انقلاب في الخط الدرامي، ويتحوَّل هذا الشريط من مؤيد لثورة يوليو إلى مناهض لها، وسيثير أزمة مع الرقابة. من ثم، تشكلت لجنة من المخرج وكاتب السيناريو رأفت الميهي والمونتير سعيد الشيخ، وقرر الثلاثة اختصار اللقطة، والاكتفاء بلفتة منه إلى ابنته، يغادر بعدها منكساً رأسه من دون أن يرفع عينيه إلى الكاميرا.

div >شريك تاجر المخدرات يكتب قصة «سجين أبو زعبل»<

شهد الفنان محمود المليجي عام 1957 مصادفة غريبة بدأت بفيلم «المتهم» للمخرج كمال عطية. أدى الممثل دور «الدكتور فكري» الصيدلاني مدمن القمار، والمتهم في جريمة قتل، الذي يرتدي البدلة الحمراء ويدخل إلى غرفة الإعدام، وتثبت براءته في آخر لحظة، وبعدها ألّف قصة فيلم «سجين أبو زعبل» إخراج نيازي مصطفى.

في هذا الفيلم، أدى المليجي دور «محمود أبو الروس» المهرب وشريك تاجر المخدرات «استيفان روستي» في الزج بالشاب البريء «محسن سرحان» إلى السجن، ويفشل الأخير في إثبات براءته، ولكنه يرفض الهرب بعد الغارة التي شنتها قوات العدوان الثلاثي على «سجن أبو زعبل» عام 1956 وتتوالى الأحداث.

حل المليجي ضيفاً على «السجون» في أفلام عدة، ولاحقته اتهامات مختلفة كمجرم يستحق العقاب، أو بريء سجن ظلماً، مثل دور محمد أبوسويلم بطل فيلم «الأرض» 1970، للمخرج يوسف شاهين، عن قصة للكاتب عبدالرحمن الشرقاوي.

وتدور أحداث «الأرض» في قرية مصرية قبل ثورة يوليو 1952، عندما يصيب البوار أرض الفلاحين البسطاء، لخفض عدد مرات الري، ويتمرد «أبوسويلم» وفلاحو القرية على هذا القرار، ويزج بهم في السجن. ونال المليجي عن هذا الدور جائزة التمثيل الأولى في مهرجان طشقند السينمائي الدولي.