لم يتخيل الأسمر صاحب الموهبة «الاستثنائية»، أن العاصمة التي راح يتحسس خطواته فيها ستقهره على هذا النحو، تحديداً يوم رفض مدير المسرح أن يسند إليه بطولة الأوبريت الغنائي الاستعراضي «القاهرة في ألف عام»، بحجة أنه ما زال في عامه الدراسي الأول بمعهد التمثيل «وعظمه لسه طري»، على حد وصفه، متمسكاً بضرورة إسناد البطولة لأسماء كبيرة، يومها حزن كثيراً وتأثر طويلاً بهذا الرفض، والذي كان سيدفعه خطوات إلى الأمام، ويختصر سنوات في مشواره الفني، لكن تعنت المدير المصري انتصر على حماس المخرج الألماني، ولولا المبدع الراحل صلاح جاهين مؤلف العرض والمتحمس لموهبته أيضاً لما تمكن زكي من تجاوز هذه الأزمة.

نشأ أحمد زكي يتيما يتنقل بين بيوت الأقارب، لكن الله عوّضه بالرائع صلاح جاهين، الذي كان بمثابة الأب الحنون والصديق الوفي والمعلم الذي فتح أمامه آفاقا أكثر رحابة.

Ad

وقف صلاح جاهين إلى جوار زكي يسانده ويخفف عنه حتى استعاد نفسه، وعندما أقيم أسبوع لأفلام زكي في إطار تكريمه بمسقط رأسه، أصر جاهين على الحضور، ووقف يتحدث عن زكي ويحكي للحضور كيف عانى في مشواره حتى وصل إلى النجومية، وكيف كان يسانده في كل أزماته.

وعن مشوار الألف ميل نواصل:

في حوار لزكي كان قد تحدث عن الدور الذي لعبه جاهين في حياته، ومدى تأثيره، حيث قال: «تحت رعايته حدث لي نضج إنساني احتواني على كل المستويات فنيا وإنسانيا، كان يأخذني إلى بيته، ويسأل عني باستمرار، يناقشني في كل الأمور والقضايا ليس من موقع المعلم فقط، بل كنا نتبادل الكراسي ويناقشني كأنه يناقش واحدا في مثل عمره، وعندما انشغلت فنيا وكنت أحيانا لا أراه بالشهور إلا أننا كنا دوما على تواصل بالتلفون يعرف أخباري، ويطمئن علي، كان أعز صديق في زمن عز فيه الأصدقاء، وابتعد فيه الناس عن بعضهم، كل واحد غارق في همومه ويخاف من الآخر».

بيت المواهب

صلاح جاهين حدوتة مصرية بحق بعيدا عن أعماله التي كانت وستظل محفورة في وجداننا وذاكرتنا، ترصد وتعبر عن أحلامنا وطموحاتنا وآمالنا وأحلامنا أيضا، فإن بيته وقلبه كانا مفتوحين لعدد من المبدعين احتضنهم وشملهم برعايته على كل المستويات إنسانيا وفنيا، الأسمر اليتيم ليس الحالة الأولى كما أنها ليست الأخيرة، فالقائمة تشمل أسماء عديدة في مقدمتهم السندريلا سعاد حسني وعدد آخر من النجوم من بينهم الفنان صبري عبدالمنعم، وعهدي صادق، وشوقي شامخ وشريف منير وغيرهم، بالإضافة إلى شعراء وأدباء ورسامين، ومخرجين وكتاب سيناريو ومطربين و... و...، كان لديه القدرة على دعم واحتواء الجميع والتعامل معهم بأبوة وصداقة وعلاقة إنسانية من نوع نادر.

جاهين كثيراً ما تحمّل جنون زكي وغضبه، فمثلا عندما عرض عليه مسلسل «هو وهي» الذي جمعه بالسندريلا الراحلة سعاد حسني استبد بالفتى الأسمر الغضب، لأن غالبية أبطال الحلقات من الرجال قد ظهرت خيانتهم، يومها صرخ زكي في وجه جاهين كاتب السيناريو والحوار إضافة للأغنيات مؤكداً له أن سناء البيسي مؤلفة العمل استطاعت أن تتسلل بنعومة وخباثة لتحقق وجهة نظرها المسيئة للرجال، إلا أن جاهين نجح في تهدئة زكي وأخرج له من بين أوراق أغنية كان قد كتبها على أن يقوم بغنائها ضمن الحلقات وهي أغنية «اثبت... ما تخليش ولا واحد يشمت ارسم على وشك تكشيرة واوعى تلف بجرحك تشحت».

علاقة جاهين مع اليتيم الأسمر لا يمكن اختزالها في بضعة سطور، فالقصص والتفاصيل لا تنتهي وكلها تؤكد أهمية الدور الذي لعبه هذا المبدع في حياة هذه الموهبة الاستثنائية، لهذا كانت صدمة رحيله من أقسى الصدمات التي عاناها زكي.

عن رحيل أبيه الروحي، كان قد قال: «شعرت باليتم الحقيقي حينما فقدت صلاح جاهين الذي كان الأب والأخ والصديق. كان أفظع خبر تلقيته هو نبأ وفاته، كنت وقتها في مستشفى لندن كلينيك أجري جراحة لاستئصال المرارة وقروح بالمعدة، وعرفت أنه أوصى الجميع بي قبل وفاته، قائلاً (خلوا بالكم من أحمد زكي)، قبلها كان جاهين قد اتصل بي في المستشفى ليطمئن علي، وفي آخر المكالمة شدد علي قائلا (عاوز حاجة، أجي لك يا أحمد)، لهذا لم أستوعب صدمة رحيله، ورفض جسمي أن يتواءم مع الجرح بعد سماعي الخبر المشؤوم، وظللت تحت العلاج بالمستشفى 50 يوماً حرصت خلالها الإدارة على أن تحضر لي أطباء أعصاب ونفسيين حتى أتماثل للشفاء، ورغم تحسن حالتي الصحية فإن إحساسي بالمرارة لم يفارقني أبداً، فبرحيله فقدت بالفعل جزءاً كبيراً مني».

بركة «المعلم»

قبل أن ينهي أحمد عامه الدراسي الأول كان أستاذه بالمعهد الفنان سعد أردش قد رشحه مع زميله الفنان محمد صبحي للمشاركة في العرض المسرحي «مدرسة المشاغبين» مع مجموعة أخرى من الوجوه الشابة، غير أن العمل في «المشاغبين» تعثر، ورشحهم أردش للمشاركة في أدوار صغيرة هامشية في عرض آخر هو «هاللو شلبي»، وهو أحد العروض التي قدمت ضمن عروض «مسرح التلفزيون» التي انطلقت في تلك الفترة، وكان من بطولة وإخراج الفنان عبدالمنعم مدبولي الذي أسند له دور «جرسون» تستغل الفرقة عشقه للتمثيل ليحضر لهم الطعام بعيداً عن عيون الإدارة.

في حوار تلفزيوني كان زكي قد حكى ذكرياته عن هذا العرض، قائلا: «كانت مشاهدي مجرد جملتين حيث أضع (صينية الطعام) ثم أقول لمدبولي (وبقية فريق العمل ومن بينهم الفنان عبدالله فرغلي وسعيد صالح الذي كتب شهادة ميلاده الفنية من خلال هذا العرض): (أنا بحب التمثيل قوي وعاوز أمثل معاكم)، فيرد مدبولي الفنان الكبير: «بعدين... بعدين، احنا مش فاضيين»، كل يوم نفس الحوار ولا جديد، ورغم شعوري بالملل فإنني واصلت العمل، ومن جانبه كان الرائع عبدالمنعم مدبولي يراقبني عن بعد، ولكنه لم يبادلني أي حوار، وفي أحد الأيام ذكرت نفس عبارتي المعتادة بعد أن وضعت صينية الطعام غير أنني فوجئت به يرد علي متسائلا (يعني عاوز تمثل معانا)، فتعجبت لأنه حوار مرتجل وجديد، وكأنه يختبر رد فعلي وكيف سأتصرف، فرحت جداً بالطبع لأن الحوار والموقف هذه المرة مختلف، وبسرعة أجبته (طبعا ده أنا بحب التمثيل قوي يا أستاذ، وعاوز أثبت نفسي)، فرد قائلا: (طب ورينا كده، حتقدم لنا إيه)، للحظات لم أصدق أنه يطالبني بالتمثيل فعلاً، يضاف إلى ذلك أنني لم أحضر أي مشاهد يمكن تقديمها وبما يتوافق والشخصية التي ألعبها، فالمفروض أنه (جرسون) غير متعلم مما يعني صعوبة تقديم مشهد من الكلاسيكيات التي ندرسها في المعهد، وفي ظل حالة الارتباك تلك هداني تفكيري، وقلت له (حقدم مسرحية أو فيلم).

ثم واصلت بسرعة وقبل أن يرجع في كلامه «مسرحية القاتل الندل، وهي من 3 فصول، فنظر لي متعجبا ولسان حاله يقول (أنت مجنون تقدم مسرحية طويلة عريضة من 3 فصول)، وبسرعة قلت «الفصل الأول، ثم وضعت يدي جنب أذني، كأنها مسدس ثم (بوم) كأن هناك طلقة خرجت من المسدس ثم سقطت على الأرض فضحك الجمهور، فوقفت وقلت (الفصل الثاني وكررت ما سبق، ثم الفصل الثالث فقاطعني، متسائلا (الفصل الثالث برضه كده)، فأجبته لا مختلف يا أستاذ، ثم كررت نفس ما فعلته لكنني، قبل أن أسقط على الأرض صرخت، قائلا (دماغي)، فضجت القاعة بالتصفيق فطلب مني تحية الجمهور، فوقفت مرتبكاً مرة أحييهم بظهري وأخرى بوجهي، ثم سألني عن اسم الفيلم الذي سأقدمه، وهل يختلف عن المسرحية، فأجبته طبعاً مختلف يا أستاذ.

وعلى سبيل التغيير، واصل قائلا «خرجت الكواليس لأدخل مجدداً على أساس أفصل بين المسرحية والفيلم الذي اخترت له اسم (في بيتنا رجل) بمعنى قدم، وفي طريقي للدخول سمعت مدبولي مخاطبا الفنان عبدالله فرغلي، أحد المشاركين في العرض، يقول (شكلها دخلة المعلم)، وكانت كلماته طوق النجاة بالنسبة لي، إذ لم يكن في بالي أي تصور لما سأقدمه، وكلمة المعلم أوحت لي بتقليد شخصية الفنان الراحل محمود المليجي، وبالفعل لاقى أدائي قبولا كبيرا من الجماهير، وكذلك استحسانا من الفنان عبدالمنعم مدبولي الذي صرح لي بعد انتهاء العرض بأنه لم يكن يتوقع قدرتي على التعامل مع الموقف على هذا النحو، كذلك نجاحي في تقديم هذه المشاهد التي تم تثبيتها لاحقا».

«لاباس»

نجاح زكي في «هاللو شلبي» لفت الأنظار بقوه لموهبته، وخصوصا داخل الأوساط الفنية، وحينما عرض العمل في التلفزيون حقق نجاحا وسط دوائر أوسع، وفي مجلة صباح الخير نشر عنه، للمرة الأولى، إشادة حول دوره في هذا العرض، وكيف خطف الأنظار على الرغم من صغر مساحته التي لم تتجاوز بضع دقائق، يومها كانت سعادة زكي لا توصف حينما رأى اسمه للمرة الأولى مطبوعا في مجلة متبوعا بإشادات وإطراء، وظل ساعات يمعن النظر ويعيد قراءة المكتوب مرارا رغم أنها كانت بضعة سطور.

بات زكي معروفا إلى حد ما في الوسط الفني، مطلوبا في عدد من الأعمال الفنية، صحيح لم تكن أعمالا كثيرة وبأدوار صغيرة، ولكنه كان سعيدا بها فلقد انتزعها بموهبته، وبالفعل شارك في عدة أعمال وفرت له دخلا أتاح له، للمرة الأولى، أن ينتقل للإقامه في «بنسيون» بشارع قصر النيل بوسط العاصمة، التي كان مفتونا بها، ويعشق السير في شوارعها.

كان البنسيون في نفس البناية التي يوجد بها «لاباس» أحد أشهر المقاهي الشهيرة في تلك الفترة، والذي شهدت جدرانه حكايات عديدة، أبطالها نجوم في مختلف المجالات، حيث كان المكان المفضل لجيل من الصحافيين والممثلين والمخرجين، منهم من كانت رحلته قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، ومنهم من كان قد بدأ أول الطريق مسترشدا بتجارب زملائه.

كان «لاباس» يشبه تماما محطة مصر يستقبل رواده على مدار اليوم منذ أن يفتح أبوابه في الصباح الباكر إلى أن يغلقها قبل منتصف الليل بقليل، وكان من نجومه البارزين المخرج الراحل صلاح أبوسيف ومساعدته حينذاك المخرجة إيناس الدغيدي، والمصور السينمائي رمسيس مرزوق وزوجته الصحافية عواطف صادق، والناقد الكبير الراحل سامي السلاموني أحد أبرز المتحمسين لموهبة الفتى الأسمر، والفنان الراحل أحمد مرعي نجم المقهى آنذاك، خاصة بعد حصول فيلمه «المومياء» للمخرج شادي عبدالسلام على عدة جوائز دولية وإشادات كثيرة لدوره المتميز بالفيلم، لذا اعتبره زكي المرجع المهم بالنسبة إليه وهو في بداية مسيرته الفنية.

وكان من رواد المقهى أيضاً الفنان عادل إمام، والفنان صلاح السعدني، اللذان كانا في بداية المشوار، وكذلك المخرج خيري بشارة، والمخرج مدكور ثابت الذي كان حينها معيدا في المعهد العالي للسينما، والكاتب الصحافي عادل حمودة، ورسام الكاريكاتير الفنان جورج البهجوري، والناقد الفني اللاذع فؤاد معوض الشهير بـ «فرفور»، وأيضا الكاتب المسرحي علي سالم، الذي جمعته الصداقة بزكي حتى أنه كان بمثابة مستشاره الفني الذي يحرص على استشارته في كثير من أموره الفنية، ورغم دعاوى مقاطعة سالم التي انتشرت بعد زيارته للكيان الصهيوني في تسعينيات القرن الماضي، فإن علاقة زكي «الإنسانية» به ظلت متواصلة ولم تتغير، منذ بدأت حينما شارك زكي في العرض المسرحي «مدرسة المشاغبين»، الذي كان من تأليفه.

وكان زكي يعتبر العديد من رواد «لاباس» أسرته القاهرية التي كان أفرادها يبدأون في الظهور منذ الصباح الباكر وعلى وحدات متفرقة، في حين كان زكي من أوائل الحضور، حيث يهبط من غرفته بالبنسيون والنعاس، في الغالب، لم يغادر عينيه بعد، وفي مرات عديدة، قبل أن يلقي تحية الصباح على الحضور، كان يتجه مباشرة إلى حمام المقهى لـ «يطس» وجهه بالمياه، حسب تعبيره الساخر، شاكياً من الانقطاع المتكرر للمياه بسبب سوء حالة المواسير، ثم يطلب من النادل «الكابتشينو» مع الكرواسون، ويصر على أن يغمسه فيه، وهو يضحك قائلا: «يا أخي زي الفايش بتاع بلدنا مع كباية الشاي، بس ده فرنساوي لا مؤاخذه».

وكانت أيام الأسمر تمضي بنفس السيناريو صباحاً في «لاباس» قبل أن ينطلق لشوارع وسط البلد في طريقه للمعهد، أو الإذاعة المصرية، حيث يؤدي دوراً صغيراً، وأحيانا يتناول طعام الغداء مع بعض رفقاء المقهى عند «اليونانية» بجوار سينما أوديون قبل أن يعود في فترة المساء والسهرة مجددا لـ «لاباس»، وكان يجتهد في اقتحام عالم الفن «بأظافره» لا يملك غير موهبته و»عزة نفسه» رغم ظروفه المعيشية بالغة الصعوبة، وفي تلك الفترة لم يكن يعي كيف ستكون خطواته المقبلة، ولا متى ستتحول الوعود الكثيرة إلى واقع ملموس، ولكنه كان على يقين لا يقبل الشك أنه قادم وبقوة.

يقول: «لم أقارن نفسي بالآخرين الذين سبقوني بخطوات؛ لإيماني بأن ما وصلوا إليه هو نتاج جهدهم وتعبهم، وعليه كان لابد أن أتعب وأعاني مثلهم».

المؤكد أن الأسمر كان مستعداً لبذل الجهد والسعي، وفي تلك الفترة شارك بدور «هامشي» في فيلم «ولدي» للمخرج نادر جلال، الذي كان من بطولة الفنان فريد شوقي، والمبدع محمود المليجي، الذي كان يطلب من زكي أن يقلده ويلح عليه، ولإيمانه بموهبته رشحه للمشاركة في العرض المسرحي «اللص الشريف» الذي لم يستمر طويلاً.

وظل الأسمر الموهوب يتحين الفرصة للإعراب عن موهبته إلى أن جاءته... فماذا عنها؟

السلاموني معلماً

الناقد الكبير الراحل سامي السلاموني أحد الذين جمعتهم الصداقة بأحمد زكي، والتي امتدت حتى رحيله، وعنه قال زكي: «كان ينتقدني وينتقد غيري، وكنت أقرأ كل ما يكتبه وأتعلم منه سواء، كتب عني أجمل الكتابات، ومرات أخرى انتقدني بقسوة شديدة، ولكنني لم أغضب منه أبداً، ليس لأننا أصدقاء، ولكن لحرصه على أن أتعلم أنا وغيري من أخطائنا».

وأضاف زكي أن السلاموني «كان ساخراً لاذعاً وقاسياً، ولكن بين ثنايا كلماته كنت على يقين من أنه يحبني، ويحب كل فنان حقيقي، يهمس في أذنك (ده غلط والصح كدا)، لا يكتب للمباهاة أو لاستعراض العضلات أو تصفية الحسابات، ولكنه يكتب لمصلحة الفن بالأساس».