في بداية الستينيات من القرن الماضي، أظهر المليجي موهبته في الكتابة الصحافية، عندما تحوَّل إلى صاحب قلم جريء، وكتب سلسلة مقالات في مجلة «الكواكب» المصرية انتقد فيها أحوال صناعة السينما المصرية، وتدني الأجور، وعدم وجود صندوق معاشات للفنانين، فضلاً عن افتقار الاستوديوهات إلى التقنيات المتطورة ووسائل الراحة، والعمل لساعات طويلة تحت مصابيح إضاءة شديدة الحرارة.

صدمت مقالات المليجي قراء «الكواكب»، لا سيما أن كاتبها نجم شهير، بينما الصفحات الأخرى تلاحق أخبار النجوم وحياتهم المرفهة، وبدت كلماته كأنها من وحي الخيال. وصودف ذات يوم أن خرج من منزله في ساعة مبكرة، للذهاب إلى استوديو الأهرام، وبادر بعض العابرين بتحيته، وسأله أحدهم: أين تذهب يا أستاذ محمود في هذا الوقت؟ فأجاب بتواضعه المعهود: «إلى العمل»، فسأله آخر بدهشة: «وهل تذهب مثلنا للعمل في الصباح المبكر»، فابتسم قائلاً: «أكل العيش». وبعد انصرافه، أدرك أن متاعب مهنته، لن يشعر بها سوى من يمارسها، ويبقى للفنان بريقه ومكانته لدى جمهوره.

Ad

في وقت لاحق، بدت انتقادات المليجي، كطلقات غاضبة، وطاولت الإذاعة لعدم احترام مواعيد التسجيل والبروفات‏، والتلفزيون لعدم التقدير الكافي، وبعض زملائه لنظرتهم السطحية إلى العمل‏،‏ وفريد شوقي لتصديقه كل ما يقال عنه‏،‏ ورشدي أباظة لتهوره واندفاعه‏،‏ وصلاح أبوسيف لإخراجه نوعاً واحداً من الأفلام‏،‏ وفاتن حمامة لأنها لا تحب العمل معه‏،‏ وتوفيق الدقن لأمور كان يفعلها لكنه توقف عنها‏، وشكري سرحان بسبب عصبيته أثناء مشاهدة مباريات نادي الزمالك، وصوَّب الشرير آخر طلقاته إلى نفسه، لأنه لا يفكر في الغد.

صار المليجي رجلاً للأدوار كافة، وبذل جهداً لتخفيف معاناة زملائه، فور انضمامه إلى عضوية الرابطة القومية للتمثيل، وبرز نشاطه في نقابة الممثلين، واقترح إنشاء نادٍ للنقابة ليجتمع فيه زملاء المهنة، وتوفير سبل العلاج والرعاية لغير القادرين.

لاقت مقترحاته صدى واسعاً، واهتمت الصحافة الفنية بأخبار النقابة، وتحقق بعض طموحات المليجي في تطوير صناعة السينما، ولكن ظل يؤرقه أن مؤشر الأفلام يتراوح بين الصعود والهبوط.

عضو الشورى

انفلت المليجي من سحر التمثيل خلال لحظات فارقة في تاريخ وطنه. في المدرسة الخديوية مطلع العشرينيات، جلس إلى طاولة الفصل الدراسي، بجوار أحمد حسين (السياسي البارز قبل ثورة يوليو 1952)، وربطته صداقة قوية مع زملاء جيله مثل الكُتَّاب إحسان عبدالقدوس ومصطفى أمين وعلي أمين، وخرج معهم للتظاهر ضد الاحتلال البريطاني، وتعرَّف إلى الرئيس أنور السادات في مرحلة الشباب. وفي فترة حكمه عينه عضواً في مجلس الشورى (البرلمان)، وبعد وفاة المليجي عام 1983، عُيِّن الموسيقار محمد عبدالوهاب، ولاحقاً الفنانة أمينة رزق.

لم تكن مصادفة أن يكرم مهرجان القاهرة السينمائي 2010 اسمي المليجي وأمينة رزق بمناسبة مرور مئة عام على ميلادهما، وتقديراً لعطائهما المتفرد في مجال التمثيل. كان أول لقاء بينهما على خشبة مسرح رمسيس، وتنبأ لهما الفنان يوسف وهبي بمستقبل باهر، وقدمهما في أفلامه السينمائية، مثل «برلنتي» 1944 حيث شارك في البطولة كل من المطربة نور الهدى، وعلوية جميل، وعبدالعليم خطاب، وفؤاد شفيق. ودارت الأحداث في إطار ميلودرامي، حول قصة حب بين فتاة فقيرة (نور الهدى) تتزوج من شاب ثري (يوسف وهبي) وتضحي بسعادتها معه، ليحقق نجاحه في مهنة المحاماة، وبعد انفصالهما تعمل مطربة، بينما يتزوج من سميحة هانم (أمينة رزق) وتتهم «برلنتي» في جريمة قتل، ويدافع عنها زوجها السابق، وتثبت براءتها.

وتتابعت أعمالهما مثل «ضحايا المدينة» 1946 للمخرج نيازي مصطفى، و«كل بيت له راجل» 1949 للمخرج أحمد كامل مرسي، و«أموال اليتامى» 1952 للمخرج جمال مدكور، و«الحاقد» 1962 للمخرج ريمون نصور، ودارت بين «الشرير» والأم الطيبة (أمينة رزق) مواجهات درامية على الشاشة وخشبة المسرح، وكلاهما قام بأدوار البطولة المطلقة في أفلامه الأولى، وظل حضوره طاغياً، ويخشى الوقوف إلى جانبه كبار النجوم.

سارق الكاميرا

التقى المليجي النجمة هند رستم في أعمالها الأولى، ومن بينها «جواهر» 1949، قصة محمد مصطفى لطفي المنفلوطي وإخراج محمد عبدالجواد، و«الناس مقامات» 1954، تأليف السيد زيادة وإخراجه، و«عواطف» تأليف نيروز عبد الملك وإخراج حسن الإمام، والفيلم الكوميدي «بين السماء والأرض» 1960 للمخرج صلاح أبوسيف.

اعتبرت نجمة الإغراء أن المليجي مدرسة في فن التمثيل، وكانت تخشى الوقوف إلى جانبه، ولا تقوى على النظر إلى عينيه اللتين يتطاير منهما الشرر، وتدرك براعته في سرقة الكاميرا. وذات يوم جمعهما فيلم للمخرج حسن الإمام، واقتضى أحد المشاهد أن تسير مع «الشرير» في أروقة منزل، وفوجئت أثناء أدائها الدور، بتوقفه إزاء «مزهرية» واقتطف زهرة لينثرها على الأرض، من دون أن ينظر إليها، وأدركت أنه يسرق المشهد منها، فأمسكت يده بعصبية، وقالت: انظر إلي وأنا أتكلم». وانتهى المشهد بقول المخرج: «ستوب» ودخل في نوبة ضحك. عندها ابتسم المليجي وهو يشعل سيجارة، ولكنها ركضت خائفة من رد فعل الشرير، وهو يركض خلفها قائلاً: «انتظري يا هند»، وعندما لحق بها، قال: «برافو يا هند أنك تنتبهين للممثل الذي أمامك... لا تتركي أحداً يسرق الكاميرا منك».

ويبدو أن صداقة قوية جمعت المليجي برستم حتى أن مجلة «الكواكب» رصدت لهما صوراً برفقة الفنان محسن سرحان، يفترشون الأرض ويأكلون «الفسيخ» في يوم شم النسيم.

الشرير والدونجوان

تكررت هذه المواقف مع النجم رشدي أباظة، وكان يراجع جيداً مشاهده مع «سارق الكاميرا» كي لا يتحوَّل إلى «كومبارس» إلى جانب المليجي. وذات يوم أجرى أباظة مداخلة مع البرنامج الإذاعي «صحبة وأنا معهم» للإعلامية الراحلة آمال العُمدة، وكانت تستضيف المليجي، وتحدث «الدونجوان» عن صداقته للشرير، وأنه مثله الأعلى في التمثيل، ويطمح دائماً في أن يصل إلى براعته ودرجة تقمصه الشخصية، ووقتها بكى «الغول» متأثراً بشهادة زميله، وتساقطت دموعه من دون أن يراها الجمهور.

وتعد أفلام المليجي وأباظة ضمن أفضل الأعمال في تاريخ السينما المصرية، ومن بينها «واإسلاماه» 1961، من تأليف علي أحمد باكثير وإخراج أندرو مارتن. دارت أحداثه في عصر المماليك، ومؤامرات القائد التتري بلطاي (فريد شوقي) قبل معركة «عين جالوت»، وملاحقته كلاً من سلامة (حسين رياض) وجهاد (لبنى عبدالعزيز)، وزواج شجرة الدر (تحية كاريوكا) من عز الدين أيبك (عماد حمدي) بعد رفضها أقطاي (محمود المليجي) ويقرر قُطز (أحمد مظهر) محاربة التتار مع صديقه الظاهر بيبرس (رشدي أباظة).

بابا أمين

اعتبر النقاد أن كل لمحة من إبداع المليجي، تكشف لغزاً محيراً، وأنه ظل لسنوات طويلة يهدر موهبته الطاغية في أفلام دون المستوى، باستثناء مشواره مع المخرج يوسف شاهين. وقال الأخير إن محمود المليجي أبرع من يؤدي دوره بتلقائية، ولم يجدها لدى أي ممثل آخر، فضلاً عن أنه شخصياً يخاف من نظرات عينيه إزاء الكاميرا. التقى به في أول أفلامه «بابا أمين» 1950، وأسند إليه دور «تاجر موبيليا» مع كل من فاتن حمامة، وحسين رياض، وفريد شوقي، وماري منيب، وكمال الشناوي.

وفي فيلمه الثاني «ابن النيل» 1951 منحه شاهين دوراً كبيراً (المعلم كامل تاجر المخدرات)، الذي يقع في قبضته الشاب الريفي حمدان (شكري سرحان)، ويجبره على العمل معه. وتتوالى أحداث القصة التي كتبها نيروز عبدالملك، برسالتها التحذيرية من وقوع الضحايا في براثن الشر، وتعلقهم بالسفر إلى القاهرة، والتذمر من حياتهم في الريف.

وفي فيلم «جميلة» 1958، دفع شاهين بالمليجي إلى دور المحامي الفرنسي الذي يدافع عن المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد (ماجدة)، وهو أول إنتاج ضخم للفنانة ماجدة، كتب قصته كل من يوسف السباعي ونجيب محفوظ وعبدالرحمن الشرقاوي، وشارك في البطولة كل من أحمد مظهر، ورشدي أباظة، وحسين رياض، صلاح ذو الفقار، وزهرة العلا، وفريدة فهمي.

وفي عام 1959، عاد المليجي إلى ارتداء قناع الشر في فيلم «حب إلى الأبد» قصة محمد أبو يوسف، وسيناريو وجيه نجيب وحواره، فيما تولى الإخراج يوسف شاهين في إطار تشويقي حول المحامي المرموق محمود نيازي (المليجي) الذي يضطهد شقيقه (أحمد رمزي) ويحرمه من حقه في ميراث والده، ويعمل الشاب في إحدى الشركات، ويكتشف أن زميلته (نادية لطفي) اختلست مالاً من الخزينة، ولكنه يتستر عليها، وتلاحقه تهمة الاختلاس وارتكاب جريمة قتل.

الناصر صلاح الدين

عندما شارك محمود المليجي في فيلم «صلاح الدين الأيوبي» 1941، لم يرتكن كل من المؤلف السيد زيادة والمخرج ابراهيم لاما إلى الوقائع التاريخية، ونسجا قصة من وحي خيالهما، وشارك في بطولته: بدر لاما، ودرية أحمد، وأنور وجدي. وبعد مرور 12 عاماً، ظهر فيلم «الناصر صلاح الدين» ليرتدي المليجي قناع القائد «كونراد» ويتخلى عن دور السلطان صلاح الدين لزميله الفنان أحمد مظهر.

بدت كواليس «الناصر صلاح الدين» حافلة بالأحداث. رحل مخرجه عز الدين ذوالفقار في عام 1963، ولم يصور سوى مشاهد قليلة من الفيلم. من ثم، وقعت المنتجة آسيا في مأزق، فأسندت إخراجه إلى المخرج الشاب يوسف شاهين، ليجد نفسه إزاء معالجة سينمائية للكاتب نجيب محفوظ والمخرج الراحل، عن قصة للأديب يوسف السباعي، وسيناريو وحوار عبدالرحمن الشرقاوي.

استقر شاهين على اختيار أبطال الفيلم، ومن بينهم نادية لطفي، وليلى فوزي، وليلى طاهر، وصلاح ذو الفقار، وحمدي غيث، وزكي طليمات، وتوفيق الدقن، وحسين رياض.

ودارت كاميرا شاهين ليقدم المليجي أحد أهم أدواره على الشاشة، ويتبارى مع كوكبة من النجوم. أما ردود الفعل حول الفيلم فتباينت بشأن الالتزام بالحقائق التاريخية، إذ رأى البعض أن التاريخ لم يذكر مقابلة «ريتشارد قلب الأسد» و«صلاح الدين الأيوبي»، وأن ثمة قدراً كبيراً من الأحداث المتخيلة، ولكن هذا لا يقلل من براعة السيناريو، وقدرة المخرج على تحريك المجاميع وتصوير المعارك. ورغم هذا لم يحقق العمل الإيرادات المطلوبة، وتكبدت المنتجة آسيا خسائر طائلة في إنتاجه.

فيلم «الأرض»

توالت رحلة المليجي مع شاهين في «الأرض» 1970، ورغم توليه بطولة الفيلم، فإن اسمه جاء بعد نجوى إبراهيم التي كانت تقف إزاء الكاميرا لأول مرة! لكنه تقاضى أجره مثلها (1500 جنيه) وشارك في البطولة كل من عزت العلايلي، وعبدالوارث عسر، وعبد الرحمن الخميسي، وتوفيق الدقن، وعلي الشريف، وحمدي أحمد، وصلاح السعدني، وابراهيم الشامي.

وبأدائه الساحر جسَّد شخصية الفلاح الثائر محمد أبوسويلم، لتصبح نقطة فارقة في مسيرته الفنية، ومسيرة شاهين الذي تخلى عن تدخله في السيناريو، ونفذ حرفياً أوراق السيناريست حسن فؤاد، ليصنع الأخير بطولة موازية مع الإخراج والتمثيل، وجعل كاتب القصة عبدالرحمن الشرقاوي راضياً عن هذا الشريط السينمائي، ويعتبره أحد أفضل أعماله مع يوسف شاهين.

بلغ المليجي ذروة تألقه مع «الأرض» وتبدلت نبرات صوته، وتغيرت ملامحه في ثوب «محمد أبوسويلم» وتوقف النقاد عند مشاهد بعينها صنعت مجد هذا الممثل الاستثنائي، ومنها مشهد محاكمته نفسه وأهل قريته، وتحفيزهم لمقاومة خفض عدد ساعات الري، وتذكيرهم بأيام ثورة 1919، ومقاومتهم الاحتلال الإنكليزي، وظلت الكاميرا تلاحق الانفعالات المتدفقة للنجم المتألق. وكأن شاهين لا يريد للمليجي أن ينتهي.

ويحتل «الأرض» رقم 2 في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، كذلك عُرض في مهرجان «كان» السينمائي الدولي، وأشاد النقاد آنذاك بالفيلم وقالوا عن الفيلم: «من الضروري أن يعرض المصريون أفلامهم في المهرجانات العالمية، ما دام لديهم مستوى فيلم «الأرض».

الأب الثري يضرب إلهام شاهين «علقة ساخنة»

شهدت كواليس أفلام المليجي، مواقف طريفة لممثل يصيبه الارتباك وينسى دوره، وممثلة تخشى النظر إلى عينيه، لكن النجمة إلهام شاهين تلقت «علقة ساخنة» من «الشرير» في فيلم «إنهم يسرقون عمري» 1982، للمخرج علي عبدالخالق. جسدت دور ابنة الرجل الثري عبدالحميد (محمود المليجي) الذي يعاني الوحدة بعد وفاة زوجته، وانشغال أولاده بحياتهم الخاصة، وينغمس في حياة لاهية. وتطلب أحد المشاهد أن تواجهه ابنته ليعود إلى استقامته، لكن كلماتها أشعلت ثورة غضبه، وانهال عليها بصفعات مدوية، وانتهى المشهد بسقوطها على الأرض، وانخراطها في بكاء هيستيري.

وبدورها، تلقت النجمة سوسن بدر درساً قاسياً من عملاق الشر، وكانت لا تزال في السنة الأولى بمعهد التمثيل، لتسند إليها المخرجة علوية زكي دوراً صغيراً في السهرة التلفزيونية «رجل اسمه عباس» 1978، من تأليف إحسان كمال، وشارك في البطولة كل من عبدالله غيث، وسميحة أيوب، وإلهام شاهين، وكمال ياسين، وعلي الشريف، والمنتصر بالله، وسامح الصريطي.

دارت أحداث «رجل اسمه عباس» في الأربعينيات. أدى المليجي دور مُعلم يحال إلى المعاش، ويجد عملاً في مدرسة خاصة بإحدى القرى، وينتقل للعيش هناك مع زوجته (سميحة أيوب) وولده (سامح الصريطي) وابنته (إلهام شاهين)، حيث يصطدم بأجواء الثأر المتبادل بين عائلتين، وتتوالى الأحداث بعد مقتل «عبدالله غيث» ويقرر «عباس» أن يذهب إلى مركز الشرطة، ليدلي بشهادته.

وقامت سوسن بدر بدور «صالحة» زوجة (عبدالله غيث)، وكان صامتاً يعتمد على تعابير الوجه فحسب. وأصابها الخوف عندما علمت أنها ستقف في أحد المشاهد إزاء الأستاذ المليجي، وبدأ التصوير وهي منكسة الرأس، وتخشى النظر في عينيه، فأوقف المشهد، وطلب إليها أن تنظر إليه، ولكنها لم تفعل، وأعيد المشهد أكثر من مرة، وفوجئت به يقبض على ذراعها بقوة، ويصرخ: «أنظري للممثل اللي قدامك (أمامك)»، فارتجف جسدها بقوة، ولم تستطع أن توقف دموعها، وهنا قال لها: «دلوقت تقدري تمثلي»، وانتهى تصوير أصعب مشهد في حياتها.