الأيقونة!
للإنسان الموهوب بأي موهبة فكرية كانت أو غيرها قيمتان، الأولى إنسانية، والثانية إبداعية، ولكل قيمة من هاتين القيمتين وزنها بميزان أكثر حساسية ودقة من ميزان الذهب، ومن هاتين القيمتين لا من أحدهما فقط يستمد الموهوب أو المبدع قيمته في المجتمع الذي يعيش فيه، أو ربما أبعد من ذلك، وأي فارق كبير بين كفتي هذا الميزان سينعكس سلباً أو إيجاباً على الصورة الذهنية لهذا المبدع في الذاكرة الجمعية، وسيؤدي إلى سقوط قيمة هذا المبدع بالهاوية، أو إلى إضافة شيء من النور والعلو لتلك الصورة الذهنية! القيمة الإبداعية في الأساس هبة إلهية لم يسع لها المبدع، ولم يبذل جهداً للحصول عليها، ولا يملك الشخص «المُصاب بها» حيلة في التحكم في حجمها داخله، إلا أن القيمة الإنسانية نتاج القيم الأخلاقية للمبدع ووعيه الإنساني، وبهما تكتمل الصورة الذهنية للمبدع، لا فرق في ذلك بين لاعب كرة القدم وصاحب الفكر في أي مجال.
وكما أن للتميز الإبداعي ونوعية العطاء، الذي يقدمه المبدع في المجال الذي عُرف فيه، درجات تحدد القيمة الإبداعية، كذلك فإن السلوك الإنساني هو المقياس الذي يحدد مدى ما يتمتع به المبدع من قيمة إنسانية، فكثيراً ما قال بعضنا أو سمع من يقول: «ليتني لم ألتقِ بذلك الفنان أو الشاعر أو الرياضي، وكنت احتفظت بصورته الجميلة السابقة في ذهني»، وكم قال بعضنا أو سمع من يقول عكس ذلك عن موهوب آخر، وأذكر أنني التقيت نجماً مشهوراً جداً على مستوى الغناء في إحدى الجلسات المختصرة وكنت -ومازلت- أعتقد أن هذا النجم لا يمتلك الإمكانات الفنية التي توازي نجوميته شبه الطاغية، فإمكاناته محدودة قد لا تصل درجة السوء، ولكنها أيضاً لا تصل درجة التميز من حيث الصوت، وما يقدمه من فن، ولكني خرجت تلك الليلة معجباً بذلك الفنان لرقي خلقه ودماثة تعامله الإنساني، مما جعلني أعيد رسم صورته الذهنية في داخلي بكثير من المحبة، وبقليل من التحفظ عند الاستماع لإحدى أغانيه، فعرفت حينئذ سر هذه الصورة الرائعة له في أذهان محبيه، وهذه القيمة العالية لها، كما أنني أعرف أشخاصاً يخشون الالتقاء بنجوم يعشقونهم حد الهوس، مخافة أن تتأثر سلباً الصورة الذهنية عنهم، فمن شدة إعجابهم بهم وبعطائهم الإبداعي لا يريدون لهذه الصورة أن تُخدش ولا حتى من قبل نجومهم المفضلين أنفسهم!إذا كانت القيمة الإبداعية للموهوب متدنية بينما قيمته الإنسانية عالية فإنها ستجعله إنساناً جداً في أحسن الأحوال، أما إذا كانت قيمته الإنسانية متدنية، مقارنة بقيمته الإبداعية، فسيكون فناناً جداً وفي الحالين هو لن يكون «أيقونة»، فالأيقونة تتطلب ذكاءً «ونجاحاً» في الجانبين، فالإخفاق في أحدهما يجعل وصول الموهوب أو المبدع إلى صورة ذهنية تجعل منه «أيقونة» شبه مستحيل، وهناك مبدعون استطاعوا أن يحققوا هذه المعادلة الصعبة والشاقة والمعقدة، وأن يدعموا قيمتهم الإبداعية بقيمتهم الإنسانية، والعكس في ذات الوقت ليصبحوا «أيقونات»، جاسم يعقوب في مجال كرة القدم، وعبدالحسين عبدالرضا في مجال التمثيل على سبيل المثال.