النجاح الذي حققه الفيلم حمّس التلفزيون المصري لإعادة تقديم حياة طه حسين من خلال مسلسل خصوصاً أن الفيلم مر مرور الكرام على حياة أديبنا الكبير نظراً إلى صغر مساحة الفيلم مقارنة بالمسلسل، ثم تم تكليف المخرج يحيى العلمي البدء في تنفيذ المسلسل المأخوذ عن كتابه «الأيام» وأسند كتابة السيناريو والحوار لكل من أمينة الصاوي و أنور أحمد.وكان د. محمد حسن الزيات زوج إبنة الأديب طه حسين (شغل منصب وزير خارجية مصر) متحمساً لأن يجسد الدور الفنان محمود ياسين بعد نجاحه في الفيلم رغم عدم حماس مخرج العمل يحي العلمي لرغبته في أن يحلق بعيدا عبر رؤية مختلفة، لكنه وتلبية لرغبة د. الزيات عرض الدور بالفعل على الفنان محمود ياسين ولكنه اعتذر عن عدم تأديته كي لا يكرر نفسه، وعليه قرر العلمي البحث عن بدائل فعرض الدور على الفنان نور الشريف الذي اعتذر أيضاً لانشغاله بأعمال أخرى، كذلك الفنان عزت العلايلي لإحساسه بأن ياسين قدم الدور بشكل متميز مما يصعب المهمة على أي فنان آخر.
فرصة العمر
بعد اعتذار هذا العدد من النجوم قرر العلمي الانتصار لوجهة نظره والتي كان يرغب في تنفيذها من البداية، وهي إسناد الدور لممثل جيد بغض النظر عن نجوميته، ويكون قادراً على تفهم طبيعة الشخصية ثم يتمكن من تجسيدها بشكل جيد، وبعد مرحلة بحث استقر العلمي على ترشيح الفنان أحمد زكي الذي بالطبع وافق فوراً ومن دون نقاش لأهمية العمل والشخصية التي يجسدها.عن تجربته مع «الأيام» قال الراحل أحمد زكي: بالتأكيد كنت في تحدٍّ رهيب نظراً إلى أهمية العمل والشخصية التي يجسدها، يضاف إلى ذلك المقارنة التي حتماً يعقدها الجمهور بيني وبين الفنان محمود ياسين الذي سبق وقدمها بنجاح كبير، غير أنني ومنذ عشقت التمثيل أحرص دوماً على البحث عن جوهر الشخصيات، تكوينها النفسي، إحساسها ومشاعرها، أجتهد في أن أقترب من روحها خصوصاً لو كانت شخصية معروفة للجمهور، لهذا رفضت تماماً مشاهدة الفيلم، وعكفت على قراءة السيناريو وكتاب الأيام لفك طلاسم الشخصية من بين سطوره، كما حرصت على أن ألتقي د. الزيات الذي كان متحفظاً على ترشيحي للدور ورغم ذلك حرصت على أن ألتقيه لنتعرف من خلاله على الإنسان لا الأديب، سألته ما الذي كان يضحك عميد الأدب، وهل سمعه مرة يقول «نكتة»، ما التصرف الذي كان يثير غضبه، ذكرياته معه هو شخصياً وأول لقاء جمع بينهما وأسئلة كثيرة وتفاصيل كلها تتعلق بالجانب الإنساني في شخصيته، لأن أعماله الأدبية موجودة ووجهة نظره معروفة ويمكن لأي شخص أن يطلع عليها، لكن الإنسان الذي قدم كل هذه الإبداعات هو مجهول لدى الجماهير، وأتصور أنه الأهم.وكما حكى العبقري الراحل فإن د. الزيات اقتنع «على مضض» بوجهة نظر الراحل أحمد، لكنه ظل متخوفاً ألا يكون على قدر المسؤولية، فيما المخرج يحيى العلمي كان شديد الحماس للأسمر الموهوب، فلقد وجد فيه كل المقومات الفنية المطلوبة لتشخيص طه حسين بإمكانياته «الاستثنائية» كممثل، ومن جانبه قام زكي بدراسة ما يقرب من أربعين شخصية من كفيفي البصر قبل قيامه بدور عميد الأدب العربي، منها الضرير الذي يولد فاقداً للبصر، وكيف يتصرف داخل المكان، ومنها الذي فقد بصره بعد أن رأى النور، والأعمى الذي عاش مبصراً ثم أصابه المرض في كهولته أو الذي غاب بصره إثر حادث ما، مشيراً إلى أن كل شخصية تختلف عن الأخرى في تعاملها مع فقدان البصر.زكي كان حريصا أيضاً على إجادة اللغة العربية إجادة تامة ولهذا استعان بأستاذ من الأزهر الشريف يساعده على قراءة القرآن واللغة العربية إجادة تامة، بعدما انتقدته الفنانة أمينة رزق في أول بروفة جمعتهما إذ أخطأ في قراءة بعض الكلمات فقالت ساخرة» عيني عليك يا ابني، مالك إنت بس ومال طه حسين»، ومن ثم قرر أن يثبت لها ولكل من تشكك وسخر من اختيار العلمي أنه بالفعل الأحق بهذا الدور، مما دفع أمينة رزق لاحقاً وأمام هذا التحول والاندماج بوعي في أداء الشخصية لأن تعتذر له، وتثني على أدائه بل صارت من أشد المتحمسين لموهبته، ولم تترك فرصة إلا وأشادت بقدرات الفتى الأسمر.عرض المسلسل ودخل أحمد زكي البيوت كلها في مصر والعالم العربي بنجاح غير مسبوق، وصار صاحب «الموهبة الاستثنائية» نجم الموسم بلا منازع بعدما برع في أداء دوره لدرجة أن مبيعات الرواية الأصلية قفزت إلى أرقام فلكية بعد نجاح المسلسل والذي شارك في بطولته كوكبة من النجوم من بينهم الفنان يحيي شاهين ومحمود المليجي وأمينة رزق وصفية العمري وعدد آخر.وخلال لقاء سابق قال الراحل أحمد زكي: سيظل الأيام من أجمل أعمالي التي أعتز بها ليس فقط لأنه نقطة تحول في مشواري الفني، ولكن أيضاً لأنني تعلمت منه الكثير، وفي تقديري أن هذا العمل يجب أن يعرض في بداية كل عام دراسي حتى يرى الشباب كيف استطاع د. طه حسين أن يقهر كل ظروفه ويصبح نموذجاً ورائداً.بعد هذا النجاح الكبير تحمس د. الزيات لتقديم جزء ثانٍ من المسلسل بعنوان «ما بعد الأيام» يتناول المرحلة الأخيرة من حياة أديبنا الكبير الراحل، لكن العمل ظل مجرد مشروع وتعثر تنفيذه.سفروت
نجاح تلو آخر جعل الأسمر الموهوب محط أنظار الجميع وبالفعل انهالت عليه العروض، لكنه كان حريصاً على تدقيق اختياراته وعدم تقديم إلا ما يشعر بالحماس له بغض النظر عن مساحة الدور بدليل أنه بعد نجاحه في «الأيام» وافق على المشاركة بدور ليس بطولة منفردة ولكنه لافت ويتيح له إبراز جوانب من موهبته، إذ شارك زكي الفنانة نادية الجندي بطولة فيلم «الباطنيه» للمخرج حسام الدين مصطفى، وهو الفيلم الذي حقق شعبية هائلة لبطلة الإيرادات غير مسبوقة جعلته ينضم لقائمة الأفلام الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ السينما المصرية.وفي حوار سابق قال الراحل: اعتدت دوما أن أختار أدواري التي تتلامس معي بغض النظر عن مساحتها، حتى في بداية مشواري رغم صعوبة أن ترفض عملاً بهدف الإنتشار، لكنني نجحت في ذلك قدر المتاح، وحتى الأدوار التي اضطررت لقبولها في مرحلة البدايات خلقت لها تاريخها الخاص من واقع الأحداث، رسمت ملامحها ومن ثم تصرفاتها وفقا تكوينها النفسي حتى لو كان مساحة تواجدها علي الشاشة بضع دقائق أو حتي ثوان، المهم أن أقدم شخص يصدقه الجمهور و يتفاعل معه.لعب زكي في الفيلم دور «سفروت» الشاب العبيط الذي يتبين في نهاية الفيلم أنه ضابط المباحث الذي تم دسه على عصابة المخدرات، وساهم الفيلم في أن يحقق زكي مزيداً من الانتشار والشعبية، فإذا كان دور عميد الأدب العربي قد خلق منه نجماً على مستوى الشاشة الصغيرة، فإن دور «سفروت» حجز له موقعاً متميزاً على الخريطة السينمائية، كما حصد عنه جائزة أحسن ممثل مساعد من جمعية كتاب ونقاد السينما.الثمانينيات بلا جدال هي نقطة «النور» في مشوار الأسمر الموهوب، حيث شارك في مجموعة من الأفلام المتميزة قدم خلالها عدد من الأدوار قلبت مقاييس النجومية رأساً على عقب، تواكب هذا مع ظهور عدد من السينمائيين الشبان (مخرجين وكتاب سيناريو ومصورين) قدموا أعمالاً صنفها النقاد بـ«موجة الواقعية الجديدة» في حين أطلق البعض الآخر عليها اسم «السينما البديلة» بوصفها الاتجاه الآخر للسينما التجارية، ومع تعدد المسميات فإن هذه الموجة من الأفلام وصناعها وأبطالها أثارت الجدل حينها، وكانت وستظل محفورة في وجدان الجماهير وذاكرة السينما المصرية وبالأخص أفلام محمد خان، عاطف الطيب، داود عبد السيد، رأفت الميهي و غيرهم.سينما جديدة
كان الفتى الأسمر هو النجم المفضل لدى صناع هذه الموجة الجديدة من السينما مع النجم نور الشريف، ويعد فيلم «عيون لا تنام» للمخرج والسيناريست رأفت الميهي أول فيلم ينتمي لهذه النوعية من السينما يشارك في بطولته أحمد زكي مع الفنان فريد شوقي ومديحة كامل، وحصل من خلاله على جائزة أحسن ممثل من جمعية الفيلم.بعدها شارك في فيلمين من إخراج محمد خان حقق من خلالهما نجاحاً كبيراً وأكد موهبته مجدداً، وهي «طائر على الطريق» مع فريد شوقي وآثار الحكيم وفردوس عبدالحميد، (والذي تقاسم فيه جائزة أحسن ممثل من الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما مع الفنان نور الشريف الذي حصدها عن دوره في فيلم أهل القمة للمخرج علي بدرخان)، الطريف أن زكي في هذا الفيلم انتصر على خوفه المرضي من السباحة في المياه والذي أصابه منذ كان طفلاً صغيراً بعدما شاهد غرق أحد زملائه بالمدرسة في البحر أثناء إحدى الرحلات، إذ رفض أن يستعين مخرج الفيلم محمد خان بدوبلير ليجسد مشهد السباحة في البحر وصمم أن يتعلمها بالفعل دون أن يخبره بما قرره ، وبعد عدة أيام أصر على دعوته على الغداء في أحد الأندية الرياضية وفاجأه بقدرته على السباحة قائلا له: «الآن أستطيع أن أعبر المانش».وفي فيلم «موعد على العشاء» الذي جمعه بالنجمة سعاد حسني للمرة الثانية رفض مجدداً الاستعانه بدوبلير، وأصر أن يدخل بنفسه «ثلاجة الموتى»، حيث من المفترض أن زوجته في الفيلم والتي أدت دورها الفنانة سعاد حسني تدخل للمشرحة للتعرف على جثة زوجها بأن ترفع الغطاء عن وجهه، لكن سعاد حسني اندمجت في دورها ونسي الجميع أحمد داخل الثلاجة ومرت لحظات مرعبة ظل خلالها ينظر يميناً ويساراً للجثث من حوله وهو يكتم أنفاسه.وخلال حوار سابق قال الراحل أحمد زكي: «كانت لحظات مرعبة أحسست بأن أعصابي كلها تجمدت وقلبي كاد يتوقف وأنا أحاول تمثيل لقطة الموت، لذا ظللت اضغط على قدمي بشدة حتى أنبه أعصابي ولا أفقد الوعي.جسد زكي بالفيلم دور شكري حلاق السيدات الذي يقع في غرام مطلقة شابة ويتزوجها لكن زوجها السابق (جسد دوره الفنان حسين فهمي) المتسلط يقوم بقتله يستغل نفوذه وسطوته، فلا تملك الزوجة الخانعة الخائفة الضعيفة إلا إعداد وجبة عشاء سامة تتناولها معه، وقد لعب زكي دوره بتمكن وأداء هادئ معتمداً على التفاصيل الصغيرة التي أبرز من خلاله دوره على الرغم من صغر مساحته.الصدفة التاريخية لعبت دورها في تحويل أحمد زكي إلى نجم نجوم الواقعية الجديدة، والبطل الجديد القادر على تقديم مختلف الأنماط و التعبير عن البسطاء والمهمشين ، ومن أبرز الأفلام التي قدمها زكي في تلك الفترة الفيلم التلفزيوني «أنا لا أكذب و لكني أتجمل» للمخرج إبراهيم الشقنقيري، عن قصة الأديب الكبير إحسان عبدالقدوس، ومن بطولة الفنانة آثار الحكيم وصلاح ذو الفقار، وقدم من خلاله شخصية طالب جامعي ينتمي لأسرة فقيرة تسكن المقابر، لذا عمد لإخفاء هذا الأمر على زملائه بالجامعة ويدعي انتماءه لأخرى كبيرة بعدما وقع في حب فتاة أرستقراطية، لكن حقيقته تتكشف للجميع، وقد حصد زكي جائزة التمثيل الأولى عن دوره بهذا الفيلم من جمعية الفيلم، كما نال دوره استحسان الجمهور والنقاد، وحقق الفيلم نجاحاً كبيراً وأثار الكثير من الجدل.واصل الأسمر الموهوب مشواره المتألق، إذ شارك المخرج خيري بشارة أول أفلامه «العوامة 70» والذي جسد من خلاله دور ومخرج أفلام تسجيلية، إلا أن الفيلم لم يحقق نجاحاً كما كان يحلم، لكنه أكد أنه «صوت المهمشين» علي الشاشة عبر هذه الأفلام التي نقلت صوراً من حياتهم بأداء صادق لممثل موهوب، كما شارك بشارة فيلمه الثاني «الأقدار الدامية»، ومع المخرج يوسف فرنسيس قدم ببراعة دور المدمن في فيلم حمل نفس الاسم، وكلها أدوار أكدت موهبة زكي وحضوره و أنه «أمل السينما المصرية» القادم لها بقوة.رغم نجاح أحمد زكي سينمائياً إلا أن عاد مجددا للشاشة الصغيرة وشارك في بطولة مسلسل «الرجل الذي فقد ذاكرته مرتين»، لم يتخيل زكي وهو يوافق على أن هذا العمل أن حياته ستتغير وتقلبها رأساً على عقب، فماذا حدث؟شخصيات تاريخية
نجاح «الأيام» دفع زكي لاحقاً لضرورة تقديم أعمال فنية تلقي الضوء على الشخصيات التاريخية التي أدت دوراً في المجتمع المصري لتعميق الانتماء لدى الأجيال الجديدة وتعريفهم برموزهم، فعند تكريمه بمعهد العالم العربي بعد سنوات طويلة من عرض مسلسل «الأيام»، قرر أن يزور جامعة «مونبيلييه» التي درس بها عميد الأدب العربي وهناك فوجئ بإحدى الطالبات تناديه «طه حسين»، فلقد نسيت اسمه رغم أنه حينها كان من نجوم الصف الأول، وتذكرت فقط دوره في مسلسل «الأيام»، ما دفعه لأن يعرض على المسؤولين بالتلفزيون المصري إنتاج أعمال فنية تخلد رموزنا لم يتحقق منها إلا عمل وحيد هو «ناصر 56».