كم لحظة هي تلك التي سرقت منهن، كم فستان تلون بفرح قلوبهن وبقي في تلك الخزائن يراقب صاحبته ويغويها لارتدائه للموعد الأول!! كم مرة استمعن لأغاني العشق وجلسن يحلمن بأن يعشن تلك اللحظة التي حوّلها عبدالحليم حافظ إلى ليال طويلة من التنهدات.كم حلمنَ بلمسة اليد الأولى، الرعشة التي تواكب لحظة التقاء العيون وفيها أقصى درجات التمرد بالنسبة إليهن!! كان عبدالحليم هو حلم كل فتاة من المحيط إلى الخليج في سنوات المراهقة الأولى، ولم يسرق عبدالحليم من مساءاتهم فوق سطوح المنازل المتلاصقة حيث الندى يسقط فيضيف بعض الانتعاش في غيظ الصيف الحار شيئا... غنت نجاة الصغيرة قصيدة نزار الشهيرة «لمن صباي لمن شال الحرير لمن...»، فسقطت الفتيات مراهقات العرب في تلك القصيدة بصوت نجاة الدافئ، وكان صوت المرأة في القصيدة ونجاة كأنه الصرخة التي لم تسمعها نساء العرب من امرأة قبل، إلا ربما تفسير البعض المتنوع لصرخة أم كلثوم «أعطني حريتي أطلق يدي»، وكأنها تصرخ عن كل نساء هذه الأرض التي عرفت وأدهن وجاء الإسلام ليكرمهن ويوقف ذلك، ثم انقلب تجار الدين ليعيدوا أيام الجاهلية الأولى.
مع أواخر الخمسينيات ومطلع الستينيات من القرن الماضي حرقت النساء في باريس المشدات الصدرية، أما نساء العرب فحرقن العبايات التقليدية، ورحلن في عوالم الموضة وموسيقى الروك آند رول، ككل فصل ربيع لم يطلع ربيع نساء العرب، فما هي إلا بضع سنين حتى تصدّر تجار الدين المنابر وأصدروا الفتاوى، فودعت النساء آخر فساتينهن القصيرة من الميني جيب والديكولتيه، وعدن إلى عباءة العائلة والعادات التي اختلطت بالدين، وانسدل السواد ليطارد كل الفضاءات العامة. ليس داعش هو من اغتصب النساء بل قبل داعش ورجالاته أعيد دفن النساء في سواد عميق عميق لا نهاية له. جاءت الفتاوى والتفسيرات والتأويلات وأحاديث تجار الدين والدنيا، ولن ننسى حملة الأختام و»الترزية» مفصلي الدين والقانون والتشريعات على أهواء أولي الأمر!! ولم تكن المرأة سوى أول الضحايا. إذا ما استمعت لأم كلثوم فذلك يعني أنها تحب، والحب في عرفهم عيب كبير ينال الشرف والعرض، وإذا طالبت بأن تبقى في المدرسة بعد الصف السادس أو الثاني الإعدادي (حسب تلك المرحلة) فهذا مخالف لدور المرأة، كما نص عليه الدين حسب تفسيراتهم هم أيضا. وإذا قالت إنها تحلم بكذا وكذا فيكون الرد منهم، وفي كثير من المرات من النساء الأكبر سنا، لا يحق للنساء الحلم، بل عليهن أن يحققن أحلام الآخرين!! تاجروا بمعنى شرف العائلة حتى سمحت القوانين الدينية والوضعية بقطع رأس الأخت من أخيها بادعاء أنها مست شرف العائلة أو القبيلة!! بعضهم حمل رأس أخته في تلك البلدات المكتظة بالمساجد ورجال الدين حملة النصوص الجاهزة، ووضعوا الرؤوس فوق مكاتب حراس القانون وحامي الدولة والدين في مراكز الشرطة، تلك المسؤولة عن راحة المواطن والحفاظ على حقوقه رجلا كان أم امرأة، فالتقى الدين في حضن القانون واجتمعا على دفنها لأن فيه دفناً للعار!!قال لها البعض أنتِ مسؤولة عن الحفاظ على بقاء الأسرة وتماسكها، عليكِ التضحية دوما أو أن تعيشي بذاك الإحساس المقيت بالذنب لأنك مقصرة، في حين يمضي الرجال أوقاتهم غير عارفين ماذا يفعلون بكل ذاك الزمن الطويل الذي هو يومك القصير المتداعي والمكتظ بالواجبات والأحاسيس المكتومة والمشاعر الممنوعة. مياه كثيرة عبرت من تحت جسورهن، وهن جالسات هناك يعشن بين الواقع وكثير من الخيال، ثم عاد أولئك نفسهم الذين حرّموا وحللوا ليفتحوا فجأة النوافذ على كل الرياح القادمة، ورددوا عليهن أن الشوارع كلها لكنّ والأماكن لم تعد محصورة خلف ستائر سوداء للنساء في حين يتجول الرجال حتى يحلقوا إلى المدن البعيدة برمشة عين!!عاد أولئك نفسهم ليحللوا ما حرّموه، فقالت لهم هي لا غيرها: وماذا عن فساتيني القديمة؟ ورددت: «لمن كان صباي؟»، وكيف تعود أسطوانات عبدالحليم التي كسرها أخي بعد فتاواكم؟ ولحن لم أسمعه وأغنية خفت أن أرددها؟ وأم كلثوم التي قيل لي إذا سمعتها تصرخ «أعطني حريتي» فقد كفرتِ ووقعتِ في الحب... حين كان الحب جريمة؟!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
لمن فساتيني... لمن شال الحرير؟ *
03-06-2019