استطاع أحمد زكي أن يدهش الجميع بقدرته على تقمص أدواره، للدرجة التي انسحبت معها وتوارت تماماً شخصيته الحقيقية.قدرة مذهلة على الذوبان في الآخر الذي يجسده، وبفعل «التلاحم الداخلي» كنا نشعر كأنه يطيل وجهه، يبرز ذقنه، يعرض أكتافه كأنه يعيد تكوين وتشكيل أعضاء جسده، بما يتوافق والشخصية التي يجسدها.
عن النجومية التي انتزعها بالموهبة، والإصرار.رغم بعض «العثرات» التي مر بها النمر الأسود، فإنه واصل الصعود بثبات، مستعيناً بموهبته الفذة وغريزته «الدرامية» في تدقيق اختياراته، كأنها البوصلة التي يهتدي بها في رحلته الإبداعيه، لم يكن مشغولا بالجوائز رغم أنه «صائد» لها بامتياز، وعندما سألت الراحل يوما في حوار سابق هل يتوقعها وهو يقرأ السيناريو لأول مرة، بتعبير أدق هل يختار أدواره على أساسها، ما يضمن له «التفرد»، إلا أنه فاجأني برده «أنه يعتبر نفسه أمام الكاميرا مثل الطبيب الجراح، عندما يدخل غرفة العمليات، فلو اهتم بما يمكن أن يلقاه من إشادات وجوائز بعد نجاحه، ربما ينصرف تركيزه عن المريض الذي يجري له العملية، لهذا فهو لا يفكر في أي شيء إلا الشخصية التي يجسدها.نواصل إلقاء الضوء على أبرز المحطات في مشوار النمر الأسود صاحب الموهبة المتفردة.كان زكي منشغلا طوال الوقت بالبحث عن «أفضل المتاح»، الكمال الذي قد لا تساعده «البيئة المحيطة» على الوصول إليه، فتكون النتيجة أن يفقد أعصابه، ويثور في «البلاتوه» كما حدث في فيلم «البيه البواب»، حينما أخبره مساعد المخرج أن المشهد القادم سيكون في نفس الديكور، وكان في «غرفة البواب»، إلا أن الراحل الحريص دوما على المصداقية اعترض وفقا لما قاله السيناريست مصطفى محرم في أحد حواراته، حيث قال: «ما ينفعش يا ابني نفس الديكور، لأن البواب في المشهد ده عرف «طعم الفلوس»، وبدأت تجري في إيده، ومن الطبيعي أن تتغير ملامح الغرفة الخاصة به، والاكسسوار كمان، يعني دهان جديد، ثلاجة، سرير مختلف، باختصار لازم الديكور يعكس هذا التغيير».غير أن المساعد رد عليه في ضيق – قائلا: «عاوزين نخلص يا أستاذ أحمد»، أزعجته الجملة جدا، فهو لم يتصور أن هناك فنانا يمكن أن يرفض الإتقان لمجرد رغبته في أن ينهي العمل بسرعة، ومرة أخرى تمسك بهدوئه، مؤكدا أن المطلوب تعديلات بسيطة لن تأخذ وقتا طويلا، لكنه فوجئ بنفس الرد من المساعد «عاوزين نخلص يا أستاذ»، حينئذ انفجر زكي كالقنبلة وترك التصوير مصراً على إجراء التعديلات، التي أقر بها مهندس الديكور، وفعلا لم تستغرق وقتا طويلا.وفي حوار للراحل قال: أعظم أداء تمثيلي لا أهمية له في ظل غياب إطار صحيح يوفره الديكور وبقية عناصر العمل الفني، وكل خلافاتي في التصوير كانت لأسباب فنية لا شخصية.
بديل الزعيم
ما لا يعرفه البعض أن فيلم «البيه البواب» كان من المفترض أن يلعب بطولته الفنان عادل إمام، ولكنه رفض الدور في اللحظات الأخيرة، فعرض العمل على كل من الفنان محمود عبدالعزيز ثم نور الشريف اللذين أكدا أنهما لم يجدا نفسيهما في الدور، ليستقر أخيرا عند أحمد زكي، وكان ذلك أول تعاون بينه وبين المنتج واصف فايز والمخرج حسن إبراهيم، غير أن زكي اشترط إجراء بعض التعديلات في صلب السيناريو، وعهد بها للكاتب علي سالم رغم أن السيناريو كان كتبه يوسف جوهر، فقد رأى في الفيلم «فكرة جديدة»، وتلقى نظرة لعالم لم تتطرق إليه السينما المصرية، كذلك شخصية البواب لم تطرح فنيا على هذا النحو من قبل.زكي كان هو أيضا صاحب فكرة ترشيح ممثلة سمراء لأداء دور زوجته في الفيلم، كما أكدت الفنانة مهجة عبدالرحمن التي لعبت الدور، وحكت كيف تدخل وأنقذها من حادثة أثناء التصوير كادت تودي بحياتها، حيث سقطت من على رصيف محطة «الكوم الأحمر» التابعة لمركز أوسيم بمحافظة الجيزة، والتي تم اختيارها لتصوير مشهد سفرهم للقاهرة، وقبل أن ينتبه أحد من فريق العمل كان زكي قد تدخل لإنقاذها.الطريف أن زكي أثناء انتظاره تحضير أحد المشاهد كان يجلس على «دكة» البواب (المقعد المخصص له) أمام العمارة التي يتم التصوير فيها، مرتديا ملابسه الخاصة بالدور، يضع ساقا على أخرى، فإذا بأحد سكان العمارة ينظر له بمنتهى الاستياء وهو يقول ممتعضا «هم كل فترة يجيبوا لنا بواب جديد»، أما عن الأغنية التي قدمها زكي في الفيلم فقد حققت نجاحا كبيرا، لدرجة أن البعض عرض علي زكي أن يطرحها في ألبوم غنائي، إلا أنه رفض بشدة، مؤكدا أنه ليس مطربا ولكنه مجرد مؤد يقدم الأغنيات إذا ما تطلبت الدراما ذلك، مشيرا إلى أنه لا يسعى إطلاقا لإقحام الأغنيات على دراما الفيلم.من «البيه البواب» لـ«أربعة في مهمة رسمية»، نوعية أخرى من الأدوار حرص زكي أن يضع من خلالها بصمته، حيث جسد شخصية موظف بإحدى المصالح الحكومية بالأقصر، تضطره الظروف إلى اصطحاب 3 حيوانات (حمار ومعزة وقرد) لتسلمها لبيت المال، وهناك يصطدم بالروتين القاتل، فبدلا من أن تستغرق المهمة 24 ساعة فقط يظل لأكثر من شهر بلا جدوى.خلال أحد حواراته قال الراحل أحمد زكي: «الفيلم كان يعتمد على كوميديا الموقف التي أعشقها، لهذا لم أتردد لحظة في قبول الفيلم، فهي بمنزلة تحد للممثل، كيف تضحك المشاهد من دون إلقاء «إفيهات»، فقط تحتاج إلى «تكنيك» خاص في الأداء، وتركيز وحرفية من الممثل، وخفة ظل، كذلك طبيعة الشخصية التي يجسدها «الموظف» بكل خصوصيتها وفقا للسيناريو، هي الأخرى تحمل جديداً على كل المستويات، وكلها عوامل أشعلت حماسي للفيلم، وكنت سعيداً لما حققه من نجاح.حفاوة
في مهرجان موسكو عام 1988، استقبل الحضور بحفاوة بالغة فيلم «زوجة رجل مهم» للمخرج محمد خان، ومن تأليف رؤوف توفيق، لدرجة أن النجم العالمي روبرت دي نيرو، الذي كان أحد أعضاء لجنة التحكيم، شد بحرارة على يد الفنان أحمد زكي مهنئا براعته في أداء دوره، مؤكدا للجميع أن «هوليوود» خسرت هذه الموهبة، وأنه لو كان يملك أن يعطيه جائزة أحسن ممثل فحتماً لن يتردد، يومها اعتبر زكي شهادة هذا النجم الكبير بمنزلة أعلى جائزة حصل عليها، وهو ما تكرر مع كل عرض للفيلم، الجميع يقف مبهورا أمام قدرة زكي الفائقة على تجسيد شخصية ضابط الشرطة، الذي جاءته السلطة فعشقها واحتمي وراءها، وسخر كل شيء من أجل الحفاظ على تلك المكانة، معتقدا أنها ستدوم للأبد، لذا نجده ينهار ويسقط ويضيع عندما تسحب منه ويتجرد منها.وخلال أحد الحوارات، اعترف الراحل بأن دوره في هذا الفيلم تسبب في إصابته باضطرابات حادة بالقولون استدعت ذهابه للطبيب أكثر من مرة، كما أوصله الدور إلى حالة من الانهيار النفسي والعصبي لازمته لفترة، وكان يتعامل مع من حوله بدرجة من التعالي والغطرسة والتكبر، لدرجة أنه في أحد الأيام كان أقام عزومة كبيرة في بيته بمناسبة زواج ابن خاله الفنان التشكيلي سمير عبدالمنعم، وقبل أن يصل الضيوف إذا بزكي يعتدي بالسب والقذف على حارس العقار لسبب لا يتحمل كل هذه العصبية لمجرد أنه لم يتخلص بعد من شخصية الضابط هشام، التي جسدها في «زوج رجل مهم»، إلا أن زكي بمجرد أن انصرف الجميع استدعى حارس العقار واعتذر له أمام أسرته، وأعطى له كل الوليمة التي تقريبا لم يمسسها أحد.إنه زكي الذي لا يعرف تبديل الأقنعة بسهولة، تنطفئ الأضواء وتتوقف الكاميرات، لكن الشخصيات التي يجسدها تظل تعيش بداخله فترة طويلة، درجة من التقمص كثيرا ما أذهلت من حوله، وأحرقت أعصابه.على الجانب الآخر لم تعترض وزارة الداخلية المصرية لا على الفيلم، ولا على الشخصية التي جسدها زكي، رغم أنها نموذج سيئ لضباط الشرطة، كما سبق أن اعترضت على «البريء»، وأكد صناع الفيلم أنهم وجدوا منها تفهما كبيرا، بل اعتبروا الفيلم درسا لكل من يعتقد أنه السلطة.ولكن كيف نجح زكي في أن يتوحد مع الشخصية بهذا القدر؟قال الراحل في أحد الحوارات:«بمجرد أن انتهيت من قراءة السيناريو بدأت أقوم بعملية «فلاش باك» لحياة البطل قبل دخوله كلية الشرطة، فالفيلم قام على تفاصيل دقيقة جدا، ولو لم أبحث في جذور هذه الشخصية لما تمكنت من تجسيدها على هذا النحو، فهو ليس شخصا شريرا، لكن لديه مفاهيم خاطئة تجعل تصرفاته تبدو فظة، شرسة خصوصا عندما أحيل للمعاش فلم يستوعب ما طرأ على حياته من متغيرات.توقيت غير مناسبلا يستطيع زكي أن يعيش بدون فن، سواء كان دورا يلعبه، أو حديثا يستغرقه، أو حلما يداعبه، ويتمنى تحقيقه، عاشق مجنون للفن، يعافر دوما ألا يسقط في «بئر الخيانة»، ويقدم دورا لا يقتنع به مهما كسب من ورائه الملايين.يقول: «أرفض حتى لا أخون وأكذب على نفسي، فأنا لا أحب أن أصدم جمهوري الذي أحبني، أرفض ليس من أجل الرفض ولكن من أجل الأجود.غير أن هذا «التدقيق» لا يضمن النجاح لكل الأعمال، ولعل فيلم «الدرجة الثالثة» الذي جمع بين السندريلا والعبقري للمرة الرابعة خير مثال لعدم التوفيق الذي قد يصادف الفنان خلال مشواره، رغم توافر كل الشروط التي من شأنها أن تضمن النجاح، فالفيلم هو التجربة الثانية لماهر عواد مؤلفا، وشريف عرفة مخرجا، هذا الثنائي الذي نجح في لفت الأنظار بقوة مع إطلالتها الأولى في «الأقزام قادمون» من خلال لغة سينمائية غير مألوفة وأفكار موضوعات «خارج الصندوق»، شخصيات «طازجة» لم يسبق تناولها.وبمجرد أن عرضوا فكرة الفيلم على السندريلا تحمست لها، رغم أن فكرة الفيلم تحلق بعيدا عن السائد والمتداول، حيث تدور الأحداث داخل عوالم كرة القدم وجمهور الدرجة الثالثة، الذي يتصدى للدفاع عن وجوده وكيانه من بطش الإدارة التي تسعى لهدم مدرجاته للاستفادة منها، ومن جانبه تحمس زكي هو الآخر للمشاركة في تلك التجربة ودعم ثنائي موهوب نجاحه حتماً سيثري الساحة.عن هذه التجربة قال الراحل أحمد زكي في أحد الحوارات:«لست نادما على التجربة، وعن نفسي كنت وسأظل مبهورا بهذا الثنائي، بل كنت مستعدا للتمثيل في كل أفلامها القادمة، وهذا الفيلم «الدرجة الثالثة» فشله الوحيد سببه الجمهور، الذي لم يتقبل فكرته، فإذا كان الفيلم عن كرة القدم فلابد من إضافة بعض اللقطات للكرة حتى لا يحبط الجمهور الذي جاء من أجلها، ودون أن نتنازل عن شبر واحد مما يريد الفيلم أن يقوله، أيضا توقيت عرضه لم يكن مناسبا أبدا، إلا أن جهة الإنتاج دفعت بالفيلم للعرض في موسم العيد، والذي من المعروف سلفا أن له جمهوره الخاص.وفي نفس الحوار واصل النمر الأسود قائلا: «على الجانب الآخر كانت هناك ثلاثة مواضع استعراضات، وكان يمكن أن تكون جميلة جدا، ولكن السندريلا أصرت على أن يلحنها كمال الطويل فيما الظروف لم تسمح بذلك، وعندما عرض عليها الاستعانة بغيره رفضت أن يقوم بهذه المهمة أحد غيره، فتم الاستغناء عنها واستبدالها بالحركات الإيقاعية، والتي كانت من أبرز الانتقادات التي وجهت للفيلم».الفشل كان مصير «الدرجة الثالثة»، وسياط النقد لم ترحم نجومه خصوصا السندريلا التي دخلت في نوبة اكتئاب طويلة تواكبت مع بداية مرضها، حتى أنها كما تردد طلبت سحب الفيلم من دور العرض لإعادة تلحين وتصوير الاستعراضات وإضافتها إليه، وهو كلام بالطبع كان من المستحيل تنفيذه.نجح زكي في تجاوز هذه التجربة، والأهم دراستها جيدا للوقوف على أسباب الفشل، ومن دون أن تهتز ثقته بنفسه، خصوصا أنه بالفعل قدم في الفيلم دورا جديدا ومختلفا عن كل ما سبق أن قدمه، وشرع زكي في التحضير لتجربة جديدة تجمعه بصديقه «اللدود محمد خان هي «أحلام هند وكاميليا»، والتي تحمل توقيعه مؤلفا إلى جوار الإخراج، بينما السيناريو والحوار مصطفى جمعة، ومن البداية كان اختيار خان زكي في دور عيد محسوم، ولكنه تخوف ألا يتحمس للمشاركة في فيلم يختفي في أغلب مشاهده مقارنة ببطلات الفيلم، إلا أنه فوجئ بحماسة، وكالعادة كان حضوره مؤثرا وعميقا حتى في المشاهد التي لا يظهر فيها لا يبتعد تأثيره.الطريف أن خان رشح الفنانة نجلاء فتحي من البداية لشخصية هند، نظرا لأن مواصفات كاميليا لا تتوافق مع نجلاء فتحي، خصوصا ما يتعلق بالجمال، ولكن نجلاء فتحي وقعت في غرام كاميليا وأصرت على تقديمه، ما دفع خان لأن يطلب منها أن تقف يوميا أمام المرأة وتردد أنا قبيحة حتى يترسخ داخل وجدانها هذا اليقين.أما شخصية هند، فكانت المرشحة لها من البداية الفنانة عايدة رياض، لكن اعتراضات «التوزيع» كانت سببا في استبعادها، فتم ترشيح الفنانة نورا، لكنها انسحبت بسبب اعتراضها على ترتيب اسمها على الافيش، فتم ترشيح الفنانة إلهام شاهين، ولكن حال شاهين لم يكن أفضل، ومن ثم تمسك خان بالعودة للترشيح الأول، وهي فرصة العمر للفنانة عايدة رياض من خلال دور مواز للفنانة نجلاء فتحي، والتي بدأت علاقتها تتوطد بالفتى الأسمر عبر هذا الفيلم، رغم أنه سبق أنه شاركها أكثر من عمل.نجح الفيلم نجاحا كبيرا رغم أنه كان «مغامرة فنية غير مأمونة العواقب» على حد توصيف النقاد الذين احتفوا بالفيلم وأبطاله، خصوصا الفنانة نجلاء فتحي التي حصدت جائزة التمثيل الأولى عن دورها في مهرجان «طشقند السينمائي الدولي»، أما الفتى الأسمر فقد حصد جائزة أحسن ممثل من مهرجان «دمشق السينمائي الدولي» عن دوره المميز، ونفس الجائزة من جمعية الفيلم.واصل الفتى الأسمر «مغامراته الفنية»... فماذا عنها؟صداقة من نوع خاص
رغم الصداقة التي جمعت بين العبقري أحمد زكي والمخرج محمد خان، وامتدت عبر عدة أفلام تعاونا فيها بدءاً من فيلم «طائر على الطريق»، حتى «أيام السادات»، فإنهما كثيرا ما تعاركا معا إلى حد الخصام والغضب الجارف، ثم سرعان ما تصفو النفوس ويلتقيان بالأحضان، وفي أحد المرات علق زكي ضاحكا بأنه سيضع صورة لمحمد خان في مدخل مكتبه حتى يلعنه كل صباح، فكلاهما مجنون سينما، ولكن كل منهما كان يعرف قدر الآخر والخلافات، بينهما كانت كلها تتعلق بالرؤية الفنية، وإصرار كل طرف على التمسك بوجهة نظره وعدم التنازل عنها أبدا.