بينما انفتحت المجتمعات بعضها على بعض بفعل التطورات التكنولوجية، فمن المُفترض إيجاد مجال أرحب لتداول الأعمال الأدبية وتنتهي الكليشهات المرسومة وفقاً لثنائية الهامش والمركز. لكن ما يلاحظُ في الواقع المُتعولم يضعُ المُتابعَ أمام سؤالٍ جوهري هل المقصودُ من عالمية الأدبِ في هذا العصر هو سيادة لون واحد من الأدب والترويجَ للمؤلفات الروائية التي تُكمل دورة الاستهلاك لدى القارئ؟ هذا ما يناقشهُ الصحافي والأكاديمي الأميركي آدم كيرش في كتابه المعنون (الرواية العالمية التناول الروائي للعالم في القرن الحادي والعشرين) الصادر من دار المدى بترجمة الكاتبة والروائية لطفية الدليمي، ويحاولُ المؤلف رصد الأسباب وراء تصاعُدَ مقروئية بعض الأعمال الروائية وتربع أصحابها على عرش العالمية، حيثُ جاءت اختياراته من حضارات وبيئات مجتمعية مُتنوعة. يشتغلُ آدم كيرش على رواية (ثلج) للكاتب التركي أورهان باموك و"Q84 1" للياباني هاروكي باروكومي، إضافة إلى 2666 لربرتو بولانيو و"أمريكانا" لتشماماندا أديتشي و"الأصولي المتوجس" لمحسن حميد، كما يُضيفُ الروائية الكندية مارغريت آتوود إلى قائمته المُختارة. عدا ذلك يستندُ كيرش في إطار دراسته إلى طروحات من سبقه في هذا المضمار.
الشعبوية والرواية
تتصدرُ هذه الدراسة بمقالة نشرها الكاتبُ الهندي سيدهارتاديب، في إحدى مطبوعات أميركية يستقصي فيها المشهدَ الروائي العالمي في ظلِ عودة الخطاب الشعبوي، إذ يشيرُ إلى رؤية آدم كيرش بشأن الرهان على الرواية بوصفها أداة ضد رغبة الانكفاء والتزمت، كما يمكن فهم شغف القراء بفن الرواية بأنَّه تأكيد على راهنية قيم التسامح وقبول الاختلاف والتبادل الحر للأفكار. واللافتُ فيما ورد بالمقال هو إشارة سيدهارتاديب إلى رأي جون أبدايك حول رواية مدن الملح لعبدالرحمن منيف، على الرغم من إشادته بنفحات ملحمية في الرواية، لكن يلمحُ في سياق مراجعته لرائعة منيف إلى أن الأخير لم يتشبع بما يكفي بالقيم الغربية التي تمكنهُ من تأليف عمل روائي بمواصفات ما يسمي بـ "رواية" في الغرب. يفصحُ هذا الكلام عن النزعة العدوانية بنظر سيد هارتا، ويعبّر عن رؤية إستعلائية لكل وافد من الأطراف إلى المركز، ومن ثُمَّ يتتبعُ واقع ما بعد الحرب الباردة، لافتاً إلى أن ما قاله جون أبدايك لا يمكن أن يصدرَ من أكثر المُتشددين حول الروايات المُترجمة عقب اندفاع تيار العولمة، فالبتالي ساهمت التحولات في نشأة شكل أدبي جديد يستهوى الكتاب الذين يترحلون بين الثقافات المُتعددة. والأهم فيما يدرسهُ آدم كيرش هو مُناهضة الأدب وخياله النفاذ للخطاب السياسي الترامبي ومحدوديته، وإذا كانت غاية الأدبِ هي البحث عن المساحات المشتركة، فإنَّ السياسة كما يمثلها دونالد ترامب تُغَذي الخوف من الآخر.فعلاً أنَّ الأدب كما تقولُ الفيلسوفة مارثا نوسباوم يشجعنا على أن نشغل أنفسنا بخير أناس تبدو أنماط حياتهم مختلفة عن طريقتنا في العيش، ويعقبُ كيرش على هذا الرأي موضحا أنَّ الأدباء قد وقعوا في شرك الاصطفافات الأيدولوجية إبانة مرحلة الحرب الباردة. إذن فإنَّ التشابكَ قائم بين السياسة والأدب وعندما يتحول العمل الأدبي إلى منصة دعائية، فيفقدُ قيمته هل نفهمَ من ذلك أن الأعمال الأدبية المقروءة على المستوى العالمي تستمدُ فرادتها من تشكيلتها الأسلوبية وموضوعاتها العميقة؟ تتباينُ الآراء بشأنِ هذا السؤال الإشكالي. ثمة كثيرُ من النقاد يرفضون مفهوم العالمية وحجة هؤلاء حسب ما يذكرها كيرش هي استحالة مُتابعة القارئ لما يصدرُ من المؤلفات بالاستمرار، كما أن الآليات التي يتمُ بموجبها الاحتفاء بنخبة مُحددة من الروائيين يشوبها الغموضُ، ويطرحُ المؤلفُ سؤالاً بشأن أعمال روائية أصبحت معروفة بفضل الترجمة هل هي أفضل وأكثر أصالة من الروايات المكتوبة بذات اللغة التي نشرت بها تلك الأعمال المدموغة بالعالمية، أو أن السر يكمنُ في أنَّ ما يصل إلى العالمية تمثل لحسابات تجارية قائمة في السوق ويخدمُ أجندات معينة؟يفردُ آدم كيرش مساحة لرؤى مختلفة حول موضوع العالمية، وذلك إدراكاً منه لتشعب مجال اشتغاله وما يثيره من الجدل على عدة مستويات. ومما يردُ ذكره في الكتاب هو رأي الناقد تيم باركس الذي لاحظَ أن الكاتب من لحظة إدراكه بأنه يخاطب جمهوراً عالمياً تتبدل طبيعة أعماله الإبداعية، منصرفاً إلى إزالة العوائق التي تحول دون الاستقبال العالمي. ويوجدُ اتجاه أكثر حدةً في مقاربة العالمية، إذ يرى أنَّ حظوة انتشار المنتج الأدبي هي تدجينه من جانب النسق النيوليبرالي. وهذا يعني ضرورة توفير مواصفات الوجبات السريعة والسلع التي تغزو السوق في العمل الأدبي. ويقرُ كيرش من جانبه أن الروايات الناجحة حسب عدد متابعيها هي تتواءَمُ مع مُتطلبات السوق، حيثُ يشيرُ إلى ستيغ لارسن الذي استوحي أجواء الرعب في رواياته من أفلام هوليوود. وما يساهمُ في الصعود نحو العالمية برأي الكاتب هو الاهتمام بالمستقبل البشري، أي لابدَّ من أن تكون المادة الروائية مُطعمةً بالنبرة التنبؤية. على غرار ما تقدمه الروائية الكندية مارغريت أتوود التي انجرفت وراء طروحات الكاتب الفرنسي ميشيل ويلبييك بكل ما يحمله من الإثارة والبنورنوغرفية والكراهية، كما أن تناول ثنائية القيم العلمانية والدينية في الروايات من العوامل الأساسية للتتويج بالعالمية، وهذا ما دفع برواية "ثلج" لأورهان باموك أن تكون سفيراً للأدب التركي. ويفسرُ كيرش عالمية مؤلف "اسمي أحمر" على ضوء مواقفه السياسية المتناغمة مع أجندة الاتحاد الأوروبي المناوئة للنظام التركي. أما بالنسبة لهاروكي موراكامي مع أنَّ طوكيو هي مسرح أحداث روايته (1984)، لكن مرجعيته الثقافية تنتمي إلى الفضاء الأوروبي والأميركي، لذلك يرى بعض النقاد اليابانيين أنَّ روايات موراكامي غير متشربة بروح الأصالة ومُتماهية مع مؤثرات الثقافة الغربية. وما يهمُ روبرتو بولاينو في (2666) الذي تنقل بين عدة الأمكنة واختلط ببيئات متنوعة هو الاهتمام بالمستقبل، ويلتقي في هذه النقطة بموراكامي، لأن هاجس المصير هو ما يشغل الاثنين. وتدور رواية "أمريكانا" للكاتبة النيجرية تشاماماندا نغوزي أديتشي حول ثيمات الهجرة والهوية والتمييز العرقي الدفين في الولايات المتحدة الأميركية، كما يقاربُ الروائي الصومالي محسن حميد في (الأصولي المتوجس) الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي، ومن المعلوم أنَّ هذا الموضوع يتصدرُ واجهة الاهتمام العالمي منذ أحداث 11 سبتمبر، والأمر لا يحتاج إلى كثير من المجهود لإمساك بالخيط الذي يجمع بين الأعمال التي يدرسها آدم كيرش، إذ تتوزع موضوعاتها بين النزعة الاستشرافية والهاجس من الآخر والصراع بين التقليد والحداثة. وما يقوله المؤلف بأنَّ الروائي المُعاصر كلما أراد سرد مرويته ينساق وراء مواصفات الرواية العالمية تشخيص دقيق لصرعة أدبية في المرحلة الراهنة.