مؤدى هذا الرأي هو رفض تشظي الحبكة وهلامية الشخصيات، والمُستغربُ أن تدس ساغان هذه الآراء النقدية ضمن عملها المعنون بـ "جروح الروح" الصادر من التنوير، وتَشيرُ إلى ما أثارته أعمالها الروائية والمسرحية لدى الجمهور، عدا ذلك تريدُ ساغان أن تضعَ المتلقي في تفاصيل محترفها الروائي والحلول التي تفكرُ فيها لأزمة شخصياتها، هذا إضافة إلى بوحها لما عاشتهُ من بعض ظروف حالت دون إكمال مشروع الرواية خلال وقت مُحدد، ومن ثمّ تستعيد جانباً من ذكرياتها المشوبة بالحزن والطيش، لافتة إلى ما تخللته مسيرة حياتها من المزدوجات وبعض نقاط التَعَجُب والشغف.

ولا تتسترُ الكاتبةُ وراء أسماء مُستعارة، كما لا تعبرُ عن رؤيتها على لسان شخصيات الرواية، بل تذكرُ ما ارتبط باسم فرانسوا ساغان لدى الجمهور، ولا تنكرُ فوائد الصورة التي كوّنها الناس عن شخصيتها، فهي قضت ما يناهز ثماني عشرة سنة متخفية في سيارات الفيراري وزجاجات الويسكي والإشاعات والزيجات والطلاق على حد قولها.

Ad

وتعودُ ساغان إلى لحظة مفصلية في حياتها، عندما انطلقت نحو النجومية في عالم الأدب، إثر صدرو باكورتها الروائية في 1954، حيث وجدت نفسها أمام خيارين؛ إما أن تصبحَ فتاة فضحائية أو كاتبة برجوازية، غير أنها تسلك طريقاً عنوانه المرح والتهتك والكتابة والمُغامرة. وهذا التجاور بين الذكريات ومشروع كتابة الرواية وتمرير آراء الجمهور بشأنِ ما يقدمه المبدع في علبة هذا النص يمكن وصفه باللارواية.

لعبة الضمائر

من الواضح أن ساغان تخرجُ من إطار الراوي المُصطنع مُعلنة هويتها لتسردُ الأحداث وتستبطنُ سرائر شخصياتها، إذ تستهلُ المقطعَ الأول من الرواية بطرح افتراض حول الشكل الذي تتخذهُ شخصية سباستيان وأخته أليونور، عندما يتمُ استعادتهما في إطار عمل روائي وتومئ ساغان إلى انتماء الشخصيتين لزمن قد مضى، حيث ألّفت مسرحية تدور أحداثها حول حياة شقيقين (أخ وأخته) في سنة 1960 وتوظف الاثنين من جديد في روايتها الصادرة سنة 1971، ملمحةً إلى ما شهدته مدينة باريس بين التاريخين من التحولات والتطورات على المستوى السياسي والمُجتمعي، مُتسائلة عن سبب لما تراه من الرداءة على ملامح المدينة، هل هذه الحالة هي نتيجة لأحداث سنة 1968، أو أن التقدم في العمر عامل لتغير الإحساس بأجواء باريس؟

طبعاً ترفض ساغان الاحتمال الأخير، لأنها لاتزال في منتصف عقدها الثالث أكثر من ذلك، فإنَّ فرانسوا تكشفُ وضع بطليها العائدين من سكاندينافيا، فكان الأخُ في ضيافة أحد أزواج ألينور هناك. ومن ثمَ يجدُ في باريس شقة فارغة لصديقه روبير باسي، حيثُ يسكنها مع أخته وما يشغل المؤلفة هنا هو وجود شخص يعيل سباستيان وآليونور، ولا ترغب بأن تدفع بشخصيتين سويديتين إلى عالم البورصة أو محلات الملابس الجاهزة.

كما تصفُ بطلتها على المستوى الخارجي ومفاتنها الأنثوية، لكن المشكلة تكمن في عدم التفات الرجال إلى النساء، جراء انتشار الشذوذ. غير أن هذه الظاهرة لا تمنع شخصيتين من الإعجاب بمناخ باريس. واللافت في أسلوب ساغان، إضافة إلى حضورها المُعلن في متن النص، هو تنوع الضمائر، فتارة يكون ضمير الشخص الأول هو أداة للسرد، وينوبُ تارة أخرى ضمير الغائب. وفي الحالة الأخيرة يبدو الراوي محايداً في العرض وتوجيه الشخصيات.

بيئة جديدة

المقصود بالبيئة هنا هو النص الروائي الذي يأتي لاحقاً للعمل المسرحي الذي نشرته ساغان، إذ تنتقلُ شخصيات المسرحية إلى بيئة نصية جديدة.

وبذلك يوجدُ تناص مواز بين العملين. وتوردُ ساغان عنوان بعض رواياتها في سياق "جروح الروح"، مُستدعية تعليقات بعض القراء عن اندماجهم مع شخصيات رواية "هل تحبين براهمز"، معبرةً عن رأيها بأنّ ليس ثمة من تعجبه حياة سويديين، لذلك لا يتكرر بالنسبة إليهما ما وقع لكائناتها الورقية السابقة. ما تفتأ ساغان تفاجئ المتلقي بتدخلاتها المباشرة عن المدة التي استغرقها الانقطاع من مُتابعة كتابة الرواية وتوهمُك باستقلالية شخصيتين بسؤال عن مصيرهما عندما توقفت عن الكتابة.

عطفاً على كل ما ذكر آنفاً، تمررُ ساغان آراءها حول خيار الكتابة والموضوعات الوجودية في مضمون هذا النص، كما تتخذُ بعض مقاطع سردية صيغة استفهامية موجهة إلى المُتلقي دون أن تشعرَ بأنها مُقتحمة أو نابية في فضاء الرواية. يضمُ هذا النص المُلتبس شخصيات محددة تعتمدُ بنية الحدث على العلاقات القائمة بينها، إذ يمرُ سباستيان بتجربة عاطفية مع نور غدلمان المسنة، في المقابل انغمست أليونور في علاقة حميمية مع ماريو الجنايني، ولا تستوعبُ نورا عندما تستمع هذا الخبر من سباستيان، ولا تتوقفُ مغامرةُ الشقيقة عند هذا الحد، بل تجذبُ اهتمام برونو رافيه، ويصبح عشيقها، الأمر الذي يؤلم روبير باسي لأنّ الأخير بدوره تجمعه علاقة شاذة بذلك الممثل.

يُشار إلى أنّ ساغان تلجأُ إلى الإيحاء في رصدها للعلاقات الحسية بدلاً من المُباشرية. وكان ردُ فعل روبير على هجر برونو رافيه هو قرار الانتحار الذي يضعُ الشخصيات الثلاث الأخرى إزاء سؤال من المسؤول عن هذه النهاية البائسة، وكأنَّ الكاتبة تستمعُ بهذا الموقف الذي يصفه بالجهنمي إلى أبطالها المتأزمين، زد على هذا يفهمُ مما تقوله ساغان أنها كانت شاهدة على حالات الانتحار بعضها جميل ونظيف، وبعضها وضيع وفاشل. ومن ثمَّ تلتفتُ إلى ما تحظى به الطقوس الجنائزية من الاهتمام لدى الفرنسيين ولا تدع الكاتبة أن تباغت القارئ من الجديد بحوارها مع الشخصيات كأن تلك الكائنات المُتخيلة ليست من صنيعها. على الرغم من ميل واضح للتجريب في هذا النص، فلا يخسرُ بذلك عنصر التشويق، بل يكونُ الشكل وطريقة الكتابة أحد عناصره الأساسية، طبعاً تتصاعد نسبة التشويق لدى قارئ مُتابع لعالم ساغان القائم على حب المُغامرة عدا متابعة وقائع الرواية، فعليه اقتناص الإشارات المحيلة إلى روافد تكوينها المعرفي.