كان خبر وفاة الفنان أحمد زكي قد تأكد في صباح 27 مارس 2005، بعد صراع شرس مع المرض اللعين، اجتهد النمر الأسود في الانتصار عليه، تدعمه ملايين الدعوات والأمنيات بالشفاء، كان يقاوم المرض لدرجة تعجب لها الأطباء الذين أشرفوا على علاجه، فداعب الأمل وجدانهم رغم يقينهم بأن هذا يخالف المنطق العلمي.في مشهد الوداع المهيب لم يكن أحمد زكي هو ذلك الفتى اليتيم الذي عاش سنواته الأولى يعاني الوحدة والحرمان، ولكنه الابن الذي خرجت مصر كلها في وداعه، الآلاف من عشاق فنه قاموا بالصلاة على روحه والدعاء له بالمغفرة والرحمة، عشرات الفضائيات المحلية والعالمية ترصد الحدث، ومراسم تشييع الجثمان على الهواء مباشرة، أعداد كبيرة من المصورين والصحافيين من مصر والعالم ينقلون وقائع الوداع التي تحولت استفتاء على حب هذا «الاستثنائي»، جنازة شعبية بامتياز على الرغم من وجود عدد كبير من المسؤولين ورجال الدولة يتقدمهم د. زكريا عزمي ممثلا للرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ووزير الصحة آنذاك عوض تاج الدين، وفاروق حسني وزير الثقافة، وصفوت الشريف وزير الإعلام، إضافة لعدد كبير من النجوم من مختلف الأعمار الفنية.
وفي العزاء ظن البعض أن المشهد الجليل للجنازة سيكون كافيا، لكن حدث العكس في العزاء ليلا لم يكن مجرد «تأدية واجب»، ولكنه مظاهرة حب جديدة للنجم صاحب الموهبة المتفردة، حيث توافد على سرادق العزاء آلاف المعزين من كل الأعمار والطبقات، جمهور بسيط ونجوم في قمة المشهد، الجميع حرصوا على مساندة ودعم وحيده هيثم.
رسالة حب
نفس الأجواء شهدها المستشفى الذي كان الأسمر يتلقى فيه علاجه، فبمجرد أن أعلن عن تواجده حتى امتلأت ردهاته بحشود جماهيرية من محبيه وعشاق فنه، وأضعاف هذا العدد يحيطون بأسواره يحاولون زيارته، وعندما فشلوا وقفوا يرددون واحدة من أشهر أغنياته التي قدمها في فيلم «هستيريا» على أمل أن يسمع رسالتهم.«إن مقدرتش تضحك... متدمعش ولا تبكيش... إن ما فضلش معاك غير قلبك... اوعى تخاف مش هتموت... هتعيش... مسير الضي لوحده هيلمع ومسير الضحك لوحده هيطلع..».ولأن العديد من النجوم كانوا يتوافدون لمتابعة حالته الصحية على مدار اليوم، ولأن الأمر مع الوقت بات مستحيلا، اضطرت إدارة المستشفى إلى منع الزيارات تماما، خصوصا بعدما اشتد عليه المرض، ودخل في مراحله الأخيرة، ومن ثم أعدت سجلا للتوقيعات بديلا للزيارات، حرص الجميع على أن يدونوا فيه للأسمر أمنياتهم ودعواتهم بالشفاء على أمل أن ينتصر النمر الأسود على مرضه ويضحك معهم على هذه الرسائل.لولا «الصدفة» و«وسوسة» أحمد زكي لما اكتشف حقيقة مرضه، يحكي صديقه الدكتور حسن البنا قائلا: «ذات يوم فوجئت بأحمد زكي يتصل بي ويطلب زيارتي في المستشفى، فقد كان يشكو من ألم في رجله وآخر في صدره، ومن ثم خضع لبعض الفحوص والأشعة، كشفت عن وجود مياه في الغشاء البلوري، أرجعت سببها لوجود التهاب رئوي، لكني نصحته بضرورة استشارة طبيب متخصص في الصدر، وبعد استشارة الطبيب تلقى العلاج، لكن الألم زاد وكذلك المياه بصدره، فخضع لعملية بذل للمياه مع تحليلها، ووقتها اقترحت من باب الاطمئنان أن نعمل تحليل خلايا، رغم أنني لم أشك للحظة في أي شيء».وواصل البنا: «وقبل خروج أحمد زكي من المستشفى فوجئت باتصال من المعمل يخبرني بوجود خلايا سرطانية، وعندما سمعت الخبر صعقت وطلبت منهم التأكد، وبالطبع لم أستطع إخباره بحقيقة مرضه، ولكني حاولت إقناعه بالمكوث في المستشفى لفترة لإجراء المزيد من الفحوصات واستشارة أطباء وترتيب أمور العلاج والى آخر هذه التفاصيل، إلا أن أحمد رفض وأصر على الخروج من المستشفى، خصوصا بعد شعوره بتحسن حالته الصحية فور عملية البذل، ومن ثم أسقط في يدي ولم يكن أمامي إلا إخبار صديقه الوفي ممدوح وافي (الذي أصيب هو الآخر بنفس المرض وتوفي قبل شهور قليلة من وفاة أحمد زكي) ومدير أعماله وصديقه أيضا محمد وطني، واتفقنا على ضرورة سفره لفرنسا لاستشارة أحد أبرز الأطباء المتخصصين في علاج هذا المرض، وبدأنا بالفعل في الإجراءات، وتولى وافي المهمة الصعبة، وهي إخباره بحقيقة مرضه حتى يواجه الأمر بشجاعته المعهودة وقد كان».في تلك الفترة كانت إجازة عيد الأضحى على الأبواب، لذا اضطر طبيب أحمد وأصدقاؤه إلى طلب الدعم من مؤسسات الدولة، التي لم تتأخر لحظة واحدة، لدرجة أنه تم استدعاء سفيرة فرنسا بمصر في تلك الفترة، والتي كانت تقضي إجازتها في شرم الشيخ، لإنهاء إجراءات سفر أحمد وفريقه المصاحب في أسرع وقت، ما يعكس أهمية وقيمة ومكانة هذا الفنان، الأمر الذي جعل زكي يتيقن حينها أن الأمر خطير، خصوصا بعد اتصال الرئيس الأسبق بزكي للاطمئنان عليه وحثه على السفر للعلاج.ورغم صدمة الخبر فإن هذه الأزمة كشفت لزكي حجم الحب الذي يكنه الجميع له، سواء زملاءه من النجوم الذين توافدوا على زيارته فور علمهم بالخبر، أو جمهوره عبر آلاف الخطابات والاتصالات والزيارات حتى إن بعضهم كان يحضر للمستشفى يعرض على زكي أن يتبرع له بأي جزء من جسده، وهو الأمر الذي أذهله، فلم يكن يتخيل، كما صرح مرارا، أن حب الناس على هذا النحو، أدرك يومها أن تعب السنين لم يذهب أدراج الرياح، وأن كل لحظة ألم عاشها مع فنه وجدت طريقها لقلوب جمهوره الذي حرص على أن يحيطه بكل هذا الحب والتقدير.تراجع
سافر الفتى الأسمر لفرنسا وخضع هناك تحليلات وفحوصات عديدة لم تختلف نتيجتها عن نظيرتها في مصر، فعاد ليستأنف رحلة علاجه بالقاهرة، مؤكدا للجميع أنه يحارب السرطان بالفن والتمثيل ويقهره.وكان زكي قبل أن يكتشف حقيقة مرضه قد تعاقد على بطولة فيلم «رسائل البحر» للمخرج داود عبدالسيد، وكان معجبا بالفيلم والدور جدا، وبالفعل بدأ التحضير للدور حتى انه كان يتدرب على «التهتهة» لدى طبيب متخصص في الأمراض النفسية، وكان يتابع مجمل تفاصيل العمل.لكن بعد اكتشاف إصابته بالمرض تراجع داود عبدالسيد عن ترشيحه، بعدما عقد اجتماعا مع طبيبه المعالج د. ياسر عبدالقادر أستاذ الأورام، بحضور مهندس الديكور ومنسق المناظر بالفيلم أنسي أبوسيف، وحسين القلا المنتج للفيلم، ليتمسك بعدها داود بالاعتذار لأحمد زكي خوفا على صحته، لأنه في تلك الفترة كان قد خضع للعلاج الكيماوي، الذي يضعف مناعة الجسم، ومن ثم سيكون زكي معرضا للإصابة بأي مرض، خصوصا أن معظم أحداث الفيلم سيتم تصويرها على شاطئ الإسكندرية وقت «النواة»، أي في عز البرد، وعندما اقترح البعض أن يرتدي زكي بدلة كاوتش تحت البالطو لتقيه من البرد رفض داود ووافقه الرأي طبيبه المعالج.غير أن زكي حزن جدا على ضياع هذه الفرصة لشدة إعجابه بالدور، ولأنه كان يؤمن بأنه لن ينتصر على مرضه إلا بالتمثيل، فهو دائما كان «المنقذ» الذي يعينه على تجاوز كل العثرات التي واجهها في حياته، ما دفع صديقه الإعلامي عماد الدين أديب وصاحب شركة جود نيوز للإنتاج السينمائي، التي قدمت للساحة السينمائية عددا من الأعمال، أن يعرض عليه تنفيذ أي مشروع آخر يتحمس له، وعليه استدعى زكي من الذاكرة حلمه القديم بتقديم فيلم يرصد سيرة عندليب الغناء عبدالحليم حافظ، وهو آخر أحلام زكي التي لمسها بطرف اصبعه، وإن قدر له أن يظهر مخالفا تماما للصورة التي كان يتمناها وظل يستعد ويحضر لها.الحلم القديم
ما لا يعرفه البعض أن زكي كان مسكونا بحلم «حليم» وقبل أن يظهر للنور بفترة طويلة، وهو أحد المشاريع التي يسعى لتنفيذها كثيرا، حتى انه تحمل جزءا كبيرا من تكلفته الإنتاجية، من خلال السيناريوهات العديدة التي كلف البعض بكتابتها، كما حصل على موافقة ورثة الراحل عبدالحليم حافظ، وكذلك تصريح من المنتج محسن جابر بإذاعة أغاني العندليب في الفيلم بوصفه صاحب شركة عالم الفن التي تمتلك حقوق هذه الأغنيات، ما يعني فعليا «جاهزية» المشروع، والذي كان يتوقف فقط على تحمس جهة إنتاج تتولى الأمر بمفردها أو تشارك زكي.كان أول سيناريو من تأليف الشاعر عبدالسلام أمين، وكان من المفترض أن يخرجه داود عبدالسيد، إلا أن الأخير لم يعجبه السيناريو وشرع في كتابة سيناريو آخر، لكن المشروع توقف، ثم لجأ زكي للكاتب محفوظ عبدالرحمن، وتم بالفعل الاتفاق مع المخرج مجدي أحمد علي الذي بدوره تحمس وعرض على الفنانة إسعاد يونس أن تشارك في إنتاجه، إلا أنها اعتذرت بسبب تكلفته الإنتاجية المرتفعة، والتي كانت تصل إلى 9 ملايين جنيه، وهي تكلفة ضخمة جدا وقتها.بعد رفض إسعاد عرض الفيلم على محسن جابر، خصوصا مع إعلانه عن رغبته في تقديم مسلسل يتناول مشوار حياة العندليب، إلا أن المشروع تعثر أيضا، وتردد حينها أن جابر طلب من زكي أن يجسد أحد الوجوه الجديدة دور عبدالحليم في مرحلة الشباب، وهو ما رفضه زكي تماما، خصوصا أنه كان يخطط للسفر لمصحة في إنجلترا لإنقاص وزنه، وكان يعقد جلسات مع متخصصين في المكياج لتقريب الشبه بينه وبين حليم في مراحل متنوعة من حياته، بعدها عرض المشروع على المنتجة مي مسحال، لكن بعد حماسها تخوفت فاعتذرت، ليعيد لها أحمد عربون الاتفاق وكان وقتها 100 ألف جنيه.بدأ زكي تصوير حليم بعد تعديلات قام بها السيناريست محفوظ عبدالرحمن في ضوء المستجدات ومرض زكي، وهي تعديلات وافق عليها الأخير مضطرا، وفي البداية رفض فريقه المعالج قيام زكي بالعمل في الفيلم خوفا من تدهور حالته الصحية بالإجهاد في العمل، خاصة أنه كان مازال يخضع للعلاج، ومع إصرار زكي تمت الموافقة على ألا يحضر فريق طبي للتصوير، وعلى ألا تتجاوز ساعات التصوير 4 ساعات فقط، إلا أن زكي تجاوز هذه المدة أكثر من مرة، مما اضطر طبيبه إلى التدخل بحزم شديد وإلغاء التصوير في بعض الأيام.واستغرق تصوير الفيلم 28 يوما تحملها زكي بكثير من التفاني والإخلاص، وكان دوما حريصا على أن يكون أول الحضور لموقع التصوير، وقبل وقت كاف لعمل المكياج، وقد تم تصوير أغنية رسالة من تحت الماء في 3 أيام، ويوم واحد لأغنية «قارئة الفنجان».وفي إطار حرصه على المصداقية رفض تناول العلاج في اليوم الذي خصص لتصوير مشهد وفاة عبدالحليم حافظ، بل رفض تناول العصائر أو المياه، حتى يكون «ريقه ناشف» بشكل طبيعي، ويتم التصوير بشكل واقعي، ورغم التأثير السلبي على صحته بسبب هذا التصرف فإنه أصر علي موقفه.زكي صور ما يقرب من 90% من مشاهده بالفيلم، وبسبب تدهور حالته تم إلغاء المشاهد التي كانت تتطلب منه السفر للمغرب وفرنسا وبريطانيا، وكذلك المشاهد الخارجية، لأنها كانت تحتاج منه مجهودا مضاعفا بسبب التصوير في بعض الشوارع، في ظل مناخ غير مستقر ومليء بالأتربة، والتي كانت تسبب له ضيقا في التنفس، وبعد أن هاجمه المرض بضراوة انتقل التصوير للمستشفى، حيث كان يقاوم عدوا لا يرحم.الصدق الفني
وقف المخرج الشاب محمود سليمان يتابع موكب جنازة أحمد زكي، كانت حركة الشارع بطيئة بسبب كثرة السيارات، التي لم يجد فيها موقعا لقدم، وفجأة وقفت أمامه سيارة أجرة بها مجموعة من الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم الـ16 عاما، سألوه عن طريق المقابر، وهل يسيرون بالاتجاه الصحيح، قبل أن يسمحوا له بأن يشاركهم، وطوال الطريق كان يتعجب ما الذي يدفع هؤلاء الصبية لأن يضحوا بكل ما يملكونه من «مصروف» لتأجير هذه السيارة لمجرد أن يشاركوا في وداع فنان، (فكرت طبعا في تأثير الفن والفنانين في صنع وجدان الناس، وشعرت أنني أعيش لحظة عظيمة وسط هؤلاء الشباب) ومع طول المسافة سمعت أحد الشباب يقول لزميله: «إيه ده يا عم، ده بعيد قوي، ده حيبقى صعب الواحد يجي تاني! ده أنا في ذكرى عبدالحليم بروح أقرأ له الفاتحة وأرجع بيتنا في ساعتين».فماذا صنع زكي ومن قبله حليم وغيرهما إلا الصدق.