العيد لا يشيخ!
العيد لا يشيخ، ولا يمتلئ رأسه بمحاصيل الرماد والثلج، ولا يتسلل الوهن إلى مفاصل همّته، يأتي العيد كل مرة بنفس الحماس والعزيمة غير فاقد لبريق قلبه، يأتي بملابسه ناصعة البياض تفوح منها روائح العطور وخنين دهن العود والبخور حاملاً حقائبه العامرة بعلب البهجة والسرور وقطع الأناشيد والأغاني المحلاة بالسكّر، ويوزّع هداياه على الجميع صغاراً وكباراً لا يستثني أحداً من عطاياه، ولا يمانع في مدّ يده للجميع نساءً ورجالاً أطفالاً وشيوخاً للرقص معه، لا يهدأ ولا يستريح طوال مدة مكوثه معنا. إلا أننا ومع تقدم العمر نسلّم طفولة قلوبنا للحياة لتغزل نسيجاً من الشيخوخة على نضارة ملامحها ورداء من الجدية على عفويتها، وكلما مضى العمر بنا أصبحنا رهينة للأيام العادية ولصراعنا اليومي معها بحثاً عن ثمر في شجرة أمنياتنا التي زرعناها في عمر مبكر فتغرقنا الحياة في دوامة تفاصيل تثير غبار احتياجاتنا العادية وغير العادية وأتربة مطالبنا الطارئة في وجه بصائرنا ووجهتها فتحجب عنها الرؤية فلا نعود قادرين على إيجاد شجرة أمنياتنا تلك، فضلاً عن ثمرها، فنقع في فخ الأيام العادية وأسرى نسيجها المتشابك، ونصبح أقل قابلية للتماهي مع مباهج العيد، وأكثر ضعفاً من التعاطي مع فتوّته وشبابه الدائم ونشاطه وحماسه المذهلين بحجة الرزانة التي نرى أنها لم تعد مناسبة بعد تجاوز العمر لسنٍّ معين، أو بحجة انشغالنا بهموم الأيام العادية التي أصبحنا ضحايا وهمنا أنها لم تترك في قلوبنا فسحة لبهجة يوم عيد، أو تحت طائل عذر ساذج بأن العيد للأطفال متجاهلين أن العيد ليس معنيّا بطفولة العمر، بل بطفولة القلب.
فالأطفال أكثر حماساً للحصول- قدر المستطاع- على أكبر قدرٍ من غنائم العيد، ليس لأنهم صغار في السن، ولكن لأن قلوبهم لم تشِخ بعد، فهم ما زالوا قادرين على إطلاق ضحكة عالية في الفضاء من على أقصى علو لأرجوحة، وما زالوا قادرين على إنتاج دهشة لمنظر ألوان الألعاب النارية في ليالي العيد، كما أن أصواتهم ما زالت قادرة على ترديد أغنية "أهلاً... أهلاً بالعيد" بفرح، وحناجرهم ما زالت طرية لتحتضن بدفء بشارة "العيد هلّ هلاله"، لا يعود هذا إلى صغر أعمارهم ولا لنعومة أظافرهم، بل لطفولة قلوبهم ولا سبب آخر غيره، في مثل أعمارهم هم غير مطالبين بالبحث عن العيد، فالعيد يأتيهم على طبق من ذهب العمر كما كان يفعل عندما كنا في سنّهم. ولكن مع تقدّم العمر يصبح الأمر أكثر صعوبة وتعقيداً، إذ نصبح نحن ملزمين بالبحث عن العيد في العيد، لأننا أكثر احتياجاً من الأطفال لهذا، ففي العيد فرصة لإزاحة بعض الشيخوخة عن قلوبنا، فنحن نفقد مع الزمن ذلك الدلال الذي كان يغدقه علينا العيد، فلا يعود يتعامل معنا مثلما كنا صغاراً حين كان يدسّ حلواه في جيوبنا، وأناشيده في حناجرنا، وبهجته المشرقة في صدورنا، نصبح نحن مع السنين مطالبين بالبحث عن تلك الحلوى في جيوبه، وتلمّس فرح الأغاني في صوته ورؤية البهجة في مراياه، ولأن العيد لا يشيخ فإنه يقع على عاتقنا نفض شيخوخة قلوبنا، واستعادة طفولتها، لتتمكن من الاستمتاع بغنائمه وعطاياه، وحتى لا يصبح العيد يوماً عادياً آخر، ولكن باسم مختلف، فالعيد لا يشيخ بل قلوبنا فقط يحدث لها ذلك!