بذور
لا تُشبعنا الكلمات، بتنا نحتاج الصوت والصورة لوصف كل صغيرة وكبيرة، فضاع المجاز وضمرت قدرتنا على التفكير التجريدي. دائماً ما أتساءل عن أثر تعرضنا لهذا السيل المستمر من الصور ومقاطع الفيديو على هواتفنا الذكية، فهي تجربة لم يسبق للعقل البشري أن اختبرها قط، ناهيك عن خلو أغلب هذه المقاطع من المحتوى الراقي والمفيد.يفتخر البعض بعدم صبره على قراءة الكتب! فهي تجلب النعاس وتذكره بأيام الدراسة، وهي الفترة الوحيدة التي تناول كتاباً فيها. ويعترف الآخر كم يفضل سماع الكتب الصوتية، أو مشاهدة الأفلام الوثائقية، وفي حين قد تكون هذه وسائل جيدة لاكتساب المعلومات فإنها لا تحل محل القراءة. فالأفلام الوثائقية تختزل وتسطّح الكثير من المعلومات لضيق الوقت والميزانية، وكذلك لجعلها سهلة الهضم للعامة، ناهيك عن أن نسبة كبيرة منها بروباغندا غير موضوعية أكثر من كونها وثائقية تثقيفية.أما الكتب الصوتية فهي خيار جيد، فالمحتوى الصوتي في تزايد مستمر، ويمكنك سماعه في السيارة أو في عقر دارك، لكن تبقى القراءة– في رأيي- هي الأساس، فلا بديل يغني عنها تماماً.
القراءة هي اكتساب حقيقي للمعرفة المتراكمة من العديد من المصادر على مدى سنوات عدة، فيصبح منظورنا أكثر عمقاً وتفسيرنا أكثر وضوحاً ونفاذية إلى لب الأمور. هي ليست جمعاً فحسب، فالذهن يعيد ربط ما تعلمه في علاقات جديدة، وهنا يولد الإبداع. يخال الكثير القراءة هواية جانبية لا تُسْمن ولا تُغني من جوع، وهذا رأي من الطبيعي انتشاره في المجتمعات الاستهلاكية الغارقة في الماديات، لكن الواقع أن القراءة تؤثر مباشرةً في تعاملنا مع معطيات الحياة اليومية وفي علاقتنا مع أنفسنا، فهي صقل مستمر لجوهر العقول. لا عجب إذاً من كثرة مشاهدتنا للقرّاء في الدول المتقدمة، تجدهم يقرؤون بنهم في المطارات والقطارات وقاعات الانتظار، ببساطة هذه مجتمعات تسعى إلى تطوير قدراتها في أي فرصة تسنح لها بذلك.ولابد من الصبر على العلم، فقد تكون هنالك بعض الكتب الصعبة، وقد تصادفنا كتب غير مشبعة، لكن القيمة الحقيقية تكمن في الرحلة ذاتها، وفي المرة القادمة ستلاحظ أن الكتب العصيّة أصبحت أكثر سهولة. أما الكتابة فهي حليفة القراءة، هي عملية تنقيح وتصفية لما تراكم في الذهن من أفكار، فحبر القلم يسيل مع قراءة ما يُلهم وينعش الفكر، وكلما مارست الاثنين معاً شحذت نصل عقلك ولاحظت ذلك التغير العظيم فيك. ولا يتطلب الأمر منك أن تكون كاتباً محترفاً أو روائياً مخضرماً، فالاحتفاظ بمذكرة تكتب فيها ما تلاحظه من أمور وخواطر عابرة قد يكون خطوة نحو التعمق في معرفة ذاتك. ومن يدري؟ فقد تكون بعض الأفكار المكتوبة بذوراً لأشياء أكبر قد ترى النور في المستقبل القريب.* «بمجرد أن تتعلم القراءة ستكون حراً إلى الأبد». (فريدريك دوغلاس)