يوم الاثنين الماضي عرضت قناة الإذاعة البريطانية (الأخبار الدولية) تحقيقا جاء فيه أن هناك 10 ملايين إنسان من عديمي الجنسية متفرقون في دول العالم، فلم أصدق، ففتحت موقع القناة في الإنترنت فوجدت أن العدد المذكور كان صحيحاً.فيا لها من كارثة، إذ إنه وبناء على هذا الخبر فإن أكثر من 1% من بدون العالم موجودون في الكويت التي لا يشكل عدد سكانها أكثر من 0.025% من سكان العالم، أي أن الكويت وحدها تحمل عشرات أضعاف العدد من البدون الذي يفترض أن تحتويه أي دولة في العالم.
وقد يظن أحدنا أن السبب الأساسي هو توافر الخيرات والخدمات المجانية التي تقدمها الكويت والتي لا يوجد مثيل لها في العالم، ولكن السبب الأهم الذي يتقدم على السبب السابق هو فشل الحكومة أو السلطة على الأصح في مواجهة هذه المشكلة، فقد كان يكفي القيام بإجراء بسيط أو إصدار قرار واحد في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات لإثبات جنسية أو جواز أي قادم إلى الكويت بدلاً من القبول بكلمة (بدون) لدخول الجيش أو الجامعة أو للحصول على الوظيفة، ولكن الحكومة لم تتخذ هذا الإجراء الضروري في الوقت المناسب، فأصبحت الآن قضية البدون مشكلة كبيرة ومستعصية.وكذلك فإن المتتبع لكثير من أمور البلاد يجد أنه متى انفردت السلطة بالقرار كانت النتيجة كارثية أو غير سليمة أو غير مرضية على الأقل.ففي مشكلة الجنسية مثلاً حاول المجلس الأول (1963) التصدي للتجنيس العشوائي والسياسي بقيادة العم عبدالعزيز العلي الخالد ومن معه من النواب، واستطاعوا إصدار قرار بذلك، ولكن السلطة لم تلتزم به، فكانت النتيجة أن يتحدث الناس اليوم عن زيادة غير طبيعية في الجناسي تصل إلى 400 ألف.ويتكرر المشهد نفسه في التعامل مع الحشود العراقية في يوليو عام 1990، إذ تمخض التفرد بالقرار عن كارثة الغزو بعد أقل من شهر.كما لم تتحرك السلطة لمواجهة الشهادات المزورة والمضروبة من تلقاء نفسها حتى انبرى لها مجموعة من الشباب وطرحوها في وسائل الإعلام، وأسسوا جمعية نفع عام للتصدي لهذه الفضيحة ولوضع الحكومة أمام مسؤوليتها، والأمثلة كثيرة مثل نقل الأصوات والرشا الانتخابية والمزدوجي الجنسية وهكذا.وعلى العكس تثبت الأحداث التاريخية أنه متى ما تعاونت السلطة مع القوى الوطنية على أساس علمي سليم كانت النتائج جيدة ومرضية إلى حد كبير، مثل مؤتمر جدة وتشكيل حكومة 1992 وغيرها. ومن الحِكم المعروفة أن الحروب لا تترك للجنرالات وحدهم، وذلك لأن الحروب تدخل فيها عوامل كثيرة عسكرية وسياسية واقتصادية وإنسانية، وكذلك الأمر في كل أمور الدولة، فلا يجوز أن تترك لفئة أو مجموعة واحدة مهما كانت محبوبة أو موثوقا بها، فلا أحد معصوم من الخطأ، ولذلك شرع الله الشورى، وذكرها في آيتين كريمتين في القرآن العظيم، ومن أجل هذا حرص الكويتيون منذ نشأة الكويت على المشاركة في الحكم أو الشورى، فكُتبت في ألفاظ واضحة في الدساتير (المواثيق) المتتالية للبلاد (1921 و1938)، وأخيراً قُننت وفُصّلت في دستور 1962.والملاحظ أن البلاد تعاني اليوم مشكلات كبيرة لا تقل عن السابقة، لكنها هذه المرة مشكلات مالية واقتصادية قد تودي بمستقبل الأجيال القادمة، خصوصاً مع وجود قوى في مجلس الأمة وخارجة تدفع بها وتزيدها، ويمكننا الجزم من خلال متابعة أعمال الحكومة في المجالس الأخيرة أن الأسلوب الذي تتبعه الحكومة الآن، كما دأبت في السابق، لن يؤدي إلى حل سليم لهذه المشكلات.وليست هذه دعوة لإبعاد أو تقليص دور السلطة في القرار لأن هذا الموضوع قد حسمه الدستور الذي نص على هيمنة مجلس الوزراء على مصالح الدولة، ورسم السياسة العامة للحكومة، ومتابعة تنفيذها (م123)، ولكنها دعوة للسلطة لمواجهة هذه المشكلات بأسلوب علمي وبدون تراخٍ أو مجاملة، ولإشراك الشعب وخاصة أصحاب الاختصاص المعروفين بالقوة والأمانة والاستعانة بهم للتصدي لمشكلات قد تكون أخطر وأعظم أثراً من جميع المشكلات السابقة.إن السلطة منفردة لن تستطيع التصدي لهذه المشكلات وحدها وربما شغلتها خلافاتها ومشاكلها الداخلية، وأضعفتها في مواجهة خطرها، مما أدى إلى تفاقم هذه المشكلات، ولسنا بعيدين عن الحقيقة إذا قلنا إن خشية رموز السلطة من التجريح دفعهم إلى المجاملة وعدم التصدي، بل المساومة أحياناً على حساب الموقف الواجب والمطلوب منهم مالياً واقتصادياً، لذلك لابد من تحرك القوى المجتمعية المدركة لخطر الوضع القائم إذا استمر دون إصلاح، ويجب أن يكون تحرك هذه القوى تحركاً مؤثراً وفعالاً.إن من أهم واجبات الحكومة هو أن تعترف بالأخطار القادمة، وأن تتخذ القرار المهم بالتصدي لها بحزم وأمانة، ثم بالتنسيق مع القوى الوطنية المستوعبة لهذه الأخطار من أجل حماية مستقبل الكويت المالي والاقتصادي من الاستنزاف وضمان مستقبل الأجيال القادمة.لذلك فإن عليها أن تعمل على إصلاح الاختلالات الهيكلية في الميزانية، وخلق مصدر آخر للدخل، وترشيد الإنفاق ومنع الفساد والتربح، كما يجب عليها بمشاركة المتخصصين المخلصين أن تصلح التركيبة السكانية، وتوفر فرص عمل لمئات الآلاف من الكويتيين القادمين الى سوق العمل عبر إصلاح التعليم، وتطبيق شرع الله بتطبيق أحكام الزكاة على التجار وغيرها من أحكام الشريعة الغراء، وأن تتصدى للمشاريع والاقتراحات الشعبوية المدمرة. إن الحكم يجب أن يكون رشيداً وحازماً وعملياً في سبيل الإصلاح، ولا يرهبه التجريح السياسي، وعليه ألا يسمح للفاسدين ولا لاقتراحات بعض النواب أو طلباتهم وغيرهم بتدمير اقتصاد البلد ومستقبل الأجيال كما حدث سابقاً في مشكلات أخرى.كما على القوى الوطنية والمجتمعية الواعية لهذه الأخطار ألا تنتظر تحرك الحكومة، فعليها أن تتحرك من تلقاء نفسها للإصلاح وتضغط على الحكومة والمجلس دون أن تيأس بسبب ضعف السلطة أو تراخيها، ودون أن تتردد بسبب الإرهاب الذي قد تتعرض له من بعض الأعضاء وبعض وسائل الاتصال، لأن مستقبل الكويت لا يتحمل المجاملة أو التراخي في حمل المسؤولية الوطنية.
مقالات
رياح وأوتاد: مثل الحروب التي لا تترك للجنرالات وحدهم مشكلات الكويت لا تترك للشيوخ وحدهم
17-06-2019