استجواب المكر السيئ!
على الرغم من سوء أداء المجلس الحالي، فإنه يكشف مع كل موقف مهم خبايا ومهازل لم تكن رائجة أو موثقة من قبل، وما من شك أن الكثير من المواقف النيابية ومنذ بداية الحقبة الدستورية لها ثمنها السياسي، أو أنها تخضع لمساومات وتنازلات ومقايضات في مقابل الاستفادة من العطايا الحكومية بمختلف أشكالها ومستوياتها، ولكن هذه الصفقات كانت وإلى حدٍ قريب إما تحت الطاولة أو أنها كانت مقتصرة على نوعية من الأعضاء الذين كانوا يسوقون أنفسهم علناً للناخبين كنواب خدمات، ومثل هذا المبدأ، وإن كان مرفوضاً ومعيباً من النواحي الوطنية والأخلاقية والشرعية، إلا أنه تحوّل إلى واقع مكشوف يتعاطاه الناس أو مجاميع منهم.لكن ما نراه في مجلس الأمة اليوم تجاوز حتى هذه الحدود، ووصلت الجرأة حتى من بعض أدعياء الوطنية أو الدين أو المتباكين على مصلحة الشعب وحقوق الناس وحرمة المال العام للدخول على هذا الخط، ضاربين عرض الحائط بما تبقى من ماء وجه السلطة التشريعية وامتداده الشعبي الذي يمثل كل مواطن كويتي.وقد كشف استجواب وزير المالية الأخير بعض هذا اللون من الخفايا عبر الاستجداء السياسي المعلن، فهناك من ساوم على إلغاء الفوائد على قروض المتقاعدين باعتبارها سحتاً ورِباً محرماً في الشريعة، مكتفياً بوعد شفهي من الوزير في هذا الشأن، متناسياً أن المالية العامة والنظام المصرفي برمته يعمل وفق النظام الربوي نفسه، بل الأكثر من ذلك تجاهل حقيقة أن القشة التي قصمت ظهر المواطن في قضية القروض هي الفوائد الربوية الجائرة التي قد تصل قيمتها في بعض الأحيان إلى ما يساوي أصل الدين أو حتى أكثر من ذلك!
ومثال آخر على هذا التسول السياسي من الحكومة ما صار يروجه بعض النواب عند معاتبته في الدواوين واتهامه بالتقاعس عن دوره الرقابي، خصوصاً في استجواب يتعلق بالأموال العامة، فيرد بكل وقاحة إن ذلك كان مقابل وعد الحكومة بتعيين أحد المقربين من "جماعته" في منصب وكيل وزارة مساعد، فما أبخسه من ثمن حيث يساوي الموقع الذي قد يساء استخدامه في ظل الفساد المستشري مقابل ثروات البلد ومصلحة أبنائه. إن مثل هذه البدع السياسية باتت على المكشوف ليس لإقرار الوضع السيئ وركوب موجته فحسب، إنما لحالة التردي والخذلان التي ينحدر المجلس في مستنقعها يوماً بعد يوم، ولا نقول هذا الكلام مطالبين النواب بالتوقيع على طلبات طرح الثقة أو تأييد الاستجوابات، فالضرب في الميت حرام، ولكن على الأقل يفترض أن تكون مواقفهم بناءً على مواقف واضحة وقابلة للدفاع عنها بالمنطق أياً كانت وجهتها، أما هذه الأعذار الأقبح من الذنب فلا تُحسب على أصحاب المواقف الذليلة أنفسهم، حتى لو افترضنا أن المكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، ولكن تبعاتها كارثية على البلد ومستقبل الديمقراطية فيه، والتي لم يتبقَّ منها سوى الفتات. وأبلغ دليل على حالة الضياع التي يعيشها أشباه النواب هؤلاء هو الإجماع على تشكيل لجنة تحقيق للنظر في محاور الاستجواب، وقد نوقش للتو وبرئت فيه ساحة الوزير، والنتيجة الوحيدة لتقرير التحقيق هي "نقعوه وشربوا مايه"!