"كيف تحافظ على صحتك العقلية في مراحل الجنون الجماعي" هو عنوان الكتاب القادم لأحدهم والذي حتما سيكسب شهرة أكثر من كاتبه هاري بوتر، وسينتشر بأعداد أكبر من "قواعد العشق الأربعون"! فالصور تنتقل سريعا والذباب الإلكتروني منتعش جداً، فهو كالحانوتي أو حفار القبور ينتعش عند كثرة الموت والدمار، الصور هي لبواخر تحترق تحت القصف وطائرة دون طيار تقصف فتسقط، وما هي إلا ساعات وتتقدم البوارج الحربية وحاملات الطائرات، وهي لم تكن بعيدة أصلا، اسألوا كم قاعدة عندنا في دول الخليج، وكم كبرت وكبرت القواعد حتى أصبحت مدناً بأسماء ومسميات عدة، مرة مستترة ومرة مواربة وأخرى علنية، كما بيوت الدعارة في ذاك الحي الشهير عندنا، وفي كل مدينة حي شبيه كما أنه في كل مدينة مقبرة.
في هذه المرحلة لا خطاب يعلو على خطاب الكراهية وكثير من الأكاذيب والتلفيق، عندما اشتعلت الحرب على العراق بكينا جميعا سقوط الضحايا المدنيين ومدن العراق الشامخة وتاريخا من الحضارة مخزنا في كل قطرة دم، عندها بكينا أن ما نعرفه هو القليل ولا يأتينا إلا عبر محطاتهم وإذاعاتهم ووكالات أنبائهم، فرحنا بعد سنين عندما أصبحت لدينا فضائياتنا الإخبارية، وجاؤوا بمذيعين عرب من الـ"بي بي سي" وغيرها ليدربوا الآخرين، وما لها إلا بضع سنين لنردد "يا فرحة ما تمت"، قلت المعرفة وقل الخبر أكثر عن الشارع المحاذي لبيت والدي العتيق بنخلته الوافرة في موسم الرطب، وعندنا لا نعرف ما يحصل حقيقة، ثم بدأ الغزو الـ"تويتري" وتحولت الجيوش من تلك الجالسة فوق حاملات الجنود والدبابات إلى الجالسة خلف جهاز للكمبيوتر تنشر الأكاذيب وتلفق الحكايات والقصص وتعيث فسادا وكراهية. تتحلق النسوة في مساء خليجي حار لا يشعر به أحد، وأجهزة التكييف تطاردك أكثر من زوجك!! هن في حفلة زواج صيفية، والموائد عامرة بما لذّ وطاب، وعلى زاوية بعيدة تحلق الشباب والشابات حول "البار"، له تسميات عديدة للمحافظة على مشاعر المحافظات من النسوة والمخالفات لعادة تقديم الخمور في ليل الخليج المحافظ!! في هذا المساء يبتعد حديثهن بعض الشيء عن آخر صرعات الموضة ومعرفة أي مدينة أوروبية سيقضين فيها موسم الصيف الطارد بعيدا عن بيوتهن ومدنهن وأوطانهن التي هي أكثر قربا من النيران، زمان كان يقال إن أردت أن تحتل ذلك البلد فاغزها وقت قيلولة الظهيرة، فالكل نائم بفعل الحر أو الأكلة الدسمة على الغداء، الآن يقال كل مدن الخليج تتحول إلى مدن للأشباح في الصيف، ويبقى كثير ممن هم دون الطبقة الوسطى والعمالة الوافدة والمتعسرين الذين عرفهم عادل إمام في فيلمه الشهير "بوبس".تتساءل تلك المتزينة بحلق من الألماس الخالص وخاتم يساوي سعره ثمن بيت لمواطن ينتظر دوره منذ سنين على قوائم وزارات الإسكان: "ماذا سنفعل لو قامت الحرب؟"، تتململ الجالسة قربها وهي تردد "لا تضايقون صدرنا الحين"، يكمل الجمع حديثه، وهن مقتنعات بأنهن قد لا يكنّ أصلا في البلد عندما يقرر أحدهم أن يشن ضربة على الآخر، وأنهن سيتابعن كل ما يجري عبر الإعلام الحديث و"القديم"، ويعدن إلى المشاوير ودعوات العشاء عند شواطئ ماربيا في الجنوب الإسباني حيث حكم أجدادهن لـ770 عاما أو حتى عند الشاطئ الفرنسي أو الإيطالي! تعرج الحديث ليصل إلى التغريدة التي كتبها ذاك الصحافي والكاتب المخضرم عن الوطن في ذاك اليوم أو قبله، هو الذي يشتكي من إيقافه والتحقيق معه كلما غرد كالنوارس عند شواطئ الخليج الهادئة، قال: "تحب أمك، تحب أختك، تحب أصغر، تحب أكبر، اعشق من تبي أكثر، مو مهم إنك طويل، مو مهم إنك قصير، الحب ما فيه مستحيل، إنما حب الوطن ما له مثيل". تركت النسوة بعض ما بأيديهن من طعام ربما محافظة على الرشاقة، خصوصا أن الصيف قادم وملابس البحر فضاحة، وقالت إحداهن: ولكن كيف نترك بلدنا والوطن في خطر؟ لم يطل الحديث كثيرا عندما قالت صاحبة الألماسة بسعر منزل: وما هو الوطن؟ "أنا أصلا لا أحب هذا الوطن"، وطيارتي في انتظاري، وبيتي هنا، وشقتي هناك، وكل المدن ستفتح أذرعها وشوارعها ومحلاتها لي!! انتهت السهرة وبقيت تلك حائرة: ألا يدافع الحالمون دوما عن الأوطان ويرحل عنها سارقوها وناهبوها والمحرضون على الحرب والكراهية؟".* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
زمن اللاعقل *
24-06-2019