لم يعد العالم بحاجة إلى مزيد من الشواهد أو المواقف التي تؤكد الشخصية العنجهية للرئيس الأميركي، ولا يتعلق وصف دونالد ترامب بالسذاجة المغلفة بقوة أميركا الدولة بحادث إسقاط "الصقر العالمي" من قبل الإيرانيين ومزاعم تراجع الرئيس الأميركي عن الضربة الانتقامية في آخر لحظة، أو ما يتعلق بفشل محادثاته مع الزعيم الكوري الشمالي، أو حتى إخفاقه في الانقلاب العسكري للإطاحة بالنظام في فنزويلا، فهذه جميعها إضافة إلى مجموعة إخفاقاته في سورية والعراق ثم مع روسيا والصين، وأخيراً مع تركيا، تعكس حالة نفسية صعبة يعانيها الرئيس الأميركي.فمنذ ترشحه للرئاسة الأميركية حاول ترامب التسويق لنفسه كرجل أعمال ناجح قادر على إثراء الولايات المتحدة من خلال كلمته التي يجب ألا تنزل الأرض، وتوهم أن كل مقومات القوة الأميركية كدولة عظمى رائدة عسكرياً واقتصادياً وتشكل القطب السياسي الأول في العالم ستكون تحت تصرفه، إذ أعلن ضرورة نسف المؤسسات السياسية الأميركية ذاتها كمقدمة لتحريك العالم بتغريدة أو تصريح، وبدأ بالفعل محاولة تطبيق هذا المبدأ دون فهم الواقع السياسي وتعقيدات النظام الدولي واستصغار شأن الدول الأخرى وقادتها وشعوبها.
وفي رأيي فإن الرئيس الأميركي وقع ضحية هذا الغرور المزيّف، وبدلاً من أن يتحكم بالعالم بإشارة أو كلمة منه، بات الكل يتلاعب به، وخاصة كبار مستشاريه أو بعض القيادات السياسية في مناطق بعيدة جغرافياً عن حدود الولايات المتحدة، ولذا ظلت الإدارة الأميركية ولأول مرة في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية بلا استراتيجية أو حتى مجرد رؤية واضحة حول الشأن الدولي، الأمر الذي جعل الرجل يدور في دوامة وحيرة، فكان الرئيس الوحيد الذي يغير طاقمه السياسي والأمني بالكامل خلال شهور من حكمه، حيث أزاح وزيري الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ومندوب واشنطن في الأمم المتحدة والمتحدث الرسمي للبيت الأبيض وغيرهم، بحجة أنهم من الحمائم، وأنه يمثل دور الصقر، ثم أتى بفريق يفترض أن كل عناصره من الصقور ودعاة الحرب والعنف لكنه تحوّل هذه المرة إلى حمامة.وفي الشأن الإيراني فإن ترامب هو الذي جنى على نفسه بتمزيق الاتفاق النووي الذي أشرفت عليه آخر إدارة أميركية بمعية أكبر خمس دول في العالم، ووضع قائمة طويلة بالمطالب التي يجب على الإيرانيين تلبيتها عبر مفاوضات جديدة وتحت عقوبات اقتصادية قد تكون الأشد من نوعها في التاريخ السياسي المعاصر، وعندما أبلعه الإيرانيون الموس صار يهذي سياسياً مرة بتصفية إيران عسكرياً ومرة أخرى بجعل إيران بنظامها السياسي نفسه أيقونة العالم إذا ما قبلته صديقاً وحليفاً، ولم يظل أحد إلا توّسل به ترامب لمقابلة أي مسؤول إيراني، فوسّط الخليجيين والعرب والألمان واليابانيين وأخيراً الإنكليز، ولا يستبعد أن يستنجد بالرئيس الروسي لإنزاله عن الشجرة التي تسلقها بنفسه.هذه الشخصية تعيش كابوساً بين سندان المحرضين لدخوله حربا لا يمكن التنبؤ بنتائجها ومطرقة محاصريه ممن يكبحون جماح مجازفاته، وتقلّب الرجل يصعّب أي تحليل أو استشراف لقراره الذي قد يتبدل كل نصف ساعة، مع أن طريق الخلاص واضح ويتمثل في تراجعه عن انسحابه من الاتفاق النووي ورفع العقوبات التي من شأنها أن تقابل بإيجابية من الإيرانيين، وعندها يرتاح ويريح العالم من شره!
مقالات
ترامب... بين المطرقة والسندان!
25-06-2019