يُعتبر «الربط» مصطلحاً ابتكره هنري كيسنجر في الدبلوماسية الأميركية في مستهل عهد نيكسون، فقد كتب كيسنجر في مذكراته «سنوات البيت الأبيض» أن الربط قد يشكّل رهاناً صريحاً مثلاً: جعل «السير نحو الحل في حرب فيتنام... شرطاً لتحقيق التقدم في مجال مصالح أخرى مع السوفيات، منها الشرق الأوسط، أو التجارة، أو ضوابط الأسلحة»، لكن الربط يشكّل أيضاً واقعاً ضمنياً في عالم يزداد تشابكاً.

لكن معلقين قلائل ممن يعملون في مجال العلاقات الدولية يقرون بأن دونالد ترامب بلغ مستوى مماثلاً من تطور والتعقيد، فعندما نفكر في الرئيس الحالي، تدفعنا كلمة «روابط» إلى تخيل ملاعب غولف لا استراتيجية كبرى، إلا أن سياسة إدارة ترامب الخارجية لا تحظى غالباً بالتقدير اللازم، علماً أن الربط يشكّل محورها.

Ad

لنتأمل في أمثلة الربط التالية:

أولاً، استخدم ترامب الرسوم الجمركية لإرغام الصين على تبديل سلوكها في عالم التجارة.

ثانياً، هنالك «حرب التكنولوجيا» المرتبطة التي لا تُشَن ضد شركة هواوي الصينية فحسب بل على صعيد أشمل في مجال الذكاء الاصطناعي.

ثالثاً، لا ننسى جهود واشنطن لتبديل ميزان القوى في الشرق الأوسط ضد إيران، مع أن هذه الجهود كادت أن تقود إلى ضربة جوية ليل يوم الخميس رداً على إسقاط الإيرانيين طائرة أميركية من دون طيار.

أخيراً، نصل إلى رغبة الرئيس في الحفاظ على نمو الاقتصاد الأميركي، مما يعلل تجدد ضغطه على الاحتياطي الفدرالي وعلى رئيسه جيروم باول خصوصاً، ربما ينبغي للمستثمرين أن يكونوا أكثر قلقاً حيال الحرب التجارية الأميركية-الصينية، وخطر نشوب حرب مع إيران مما هم عليه اليوم.

ولكن ما دام الاحتياطي الفدرالي مستعداً لمنح ترامب الاقتطاعات التي يريدها في معدلات الفائدة، فستبقى الأسواق ناشطة، وسيحافظ المستهلكون على ثقتهم، وستظل حملة إعادة انتخابه عام 2020 على الدرب الصحيح.

اكتشفتُ خلال زيارتي الأخيرة إلى واشنطن نقطتين عن عملية الربط الجديدة لم أفهمهما جيداً من قبل: أولاً، ترغب الإدارة ككل في تعزيز الضغط على الرئيس شي جين بينغ، فقد كان يُفترض بنائب الرئيس مايك بنس أن يدلي يوم الاثنين بخطاب مهم آخر بشأن الصين، حيث ركّز خطابه الأول في معهد هادسون في شهر أكتوبر الماضي على الأسس الجيو-سياسية التي تبرر الموقف الأميركي الأكثر تشدداً، وتؤكد مصادر مقربة من بنس أن خطابه الجديد كان سيتناول مسألة بكين من زاوية مختلفة، مركزاً على سوء معاملة الحكومة الصينية المنشقين السياسيين والأقليات الدينية، المسلمة والمسيحية على حد سواء.

لا شك أن هذا سيرفع مستوى المواجهة في مرحلة ما زالت بكين تتخبط فيها لتستعيد توازنها بعد مواجهتها الاستعراض الضخم لقوة الشعب في هونغ كونغ الذي فرض تعليق قانون يسهّل عمليات الترحيل إلى البر الصيني الرئيس.

أثار الرئيس الأميركي على عادته اهتمام بكين وول ستريت على حد سواء بوعده «بلقاء مطوّل» مع شي على هامش قمة مجموعة الدول العشرين في أوساكا، ويوم الجمعة الماضي أرجئ خطاب بنس، وأظن أن ترامب قد يقبل في إحدى نزواته بصفقة تجارية خلال مأدبة عشاء، إلا أن هذا لن يتعارض مع كل الخطوات الأخرى التي اتخذتها إدارته، ولكن بما أن الاحتياطي الفدرالي يستعد لخفض معدلات الفائدة في الشهر المقبل وأسواق الأسهم تبلغ مستويات أعلى بعد، لا يملك ترامب أي دافع ليسمح لشي بنيل مراده، فضلاً عن أن من الأفضل ترك الصفقة التجارية لسنة الانتخابات.

أما النقطة الثانية التي صرتُ أفهمها بوضوح أكبر اليوم، فهي استراتيجية الإدارة في الشرق الأوسط، كما أوضح ترامب عندما ألغى الضربات الجوية المخطط لها مساء الخميس، لا يسعى وراء الحرب. على العكس، هدفه المضي قدماً في الضغط على طهران وعزلها لأسباب دبلوماسية. بالإضافة إلى ذلك، ما من صحافي أعرفه يأخذ مبادرة السلام في الشرق الأوسط التي أعدها غاريد كوشنر على محمل الجد، علماً أن الجزء الأول منها طرح خلال مؤتمر البحرين قبل أيام. تلخص عبارة «الموت قبل الولادة» التفكير السائد، لكنني أتبنى وجهة نظر معاكسة.

عندما نتأمل التغييرات التي شهدتها المنطقة منذ تسلم والد زوجته ترامب زمام السلطة في الولايات المتحدة، تبرز أمامنا مسألتان: الأولى أن إسرائيل ما عادت دولة محاصرة محاطة بالأعداء، فقد أصبحت جزءاً من ائتلاف عربي-إسرائيلي تقوده الولايات المتحدة ضد إيران. والثانية أن الفلسطينيين، الذين عاد تصنيفهم كضحايا بالفائدة سابقاً على القوميين العرب والإسلاميين على حد سواء، باتوا مهمشين.

طرحت مبادرات السلام السابقة المسائل الكبرى المرتبطة بالأراضي والشكل النهائي أولاً. صحيح أن هذه المسائل كبرى، إلا أنها أيضاً عصية على الحل، لذلك يهدف كوشنر إلى البدء بمسألة المال البسيطة التي لا تبدو في الواقع صغيرة إلى هذا الحد، فأمام عملية استثمار واسعة في غزة والضفة الغربية تمولها دول الخليج الغنية بالنفط فرصة لاستمالة بعض الفلسطينيين على الأقل بعيداً عن حماس، فقد أظهرت دروس الثورات العربية أن ثمة طبقة من أصحاب المصالح الصغيرة سئمت أعمال العنف التي ينفذها الإرهابيون بقدر سأمها من تعديات الحكومات الفاسدة.

تبقى العقبة غير المتوقعة هي إخفاق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في تشكيل ائتلاف جديد، مما سيعيد بلده إلى صناديق الاقتراع لاحقاً في شهر سبتمبر، وقد يؤدي هذا إلى إضعاف الربط بين الفرص الاقتصادية والتنازلات السياسية.

أقر كيسنجر في مذكراته: «لا يشكل الربط... مفهوماً طبيعياً بالنسبة إلى الأميركيين. وتفاقم مؤسساتنا البيروقراطية... والميل إلى التجزئة». لكن ترامب يمقت طريقة التفكير البيروقراطية، مما يعني أنه يلجأ إلى الربط تلقائياً.

رغم ذلك، يجب ألا نبالغ، فقد يؤدي الربط أيضاً إلى نتائج عكسية إذا ولّد إخفاقا واحدا ورد فعل متسلسل، كذلك يتطلب الربط من الحلفاء أن يؤدوا دورهم. وفي الوقت الراهن، يفضل الأوروبيون ألا يدعموا أي طرف في حرب التكنولوجيا، وأن يظلوا على الحياد في الحرب التجارية، وأن يلتصقوا بالصفقة النووية الإيرانية القديمة.

في الختام، مهما كان الربط مبدعاً، لا يستطيع التعويض عن تأثير أسلوب ترامب المدمر في نفوذ الولايات المتحدة حول العالم، هذا الأسلوب الذي يمكن تلخيصه بكلمة واحدة: التقلص.