لا تزال المملكة المتحدة بعد مرور ثلاثة أعوام على إعلان نتيجة الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الأوروبي لا تدرك كيفية الخروج من الاتحاد الأوروبي وما الذي سيحدث لاحقا لذلك، علما أنه تجري حاليا انتخابات على زعامة حزب المحافظين وذلك من أجل استبدال رئيسة الوزراء المنصرفة تيريزا ماي، وبالنسبة إلى المتابعين للمشهد من بعيد فإن الجدل القائم بين المترشحين يؤكد أنهم لم يتعلموا شيئا البتة من مفاوضات العامين الماضيين مع الاتحاد الأوروبي.

للأسف إن هذا ليس مفاجئا، وذلك نظراً لأن المرشح المتصدر هو بوريس جونسون الذي كان أبرز شخص وراء حملة الدعوة للخروج من الاتحاد الاوروبي، وهو رجل يستمر في تضليل العامة عن الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي بريكست، وتقديم معلومات مخادعة ومبالغ بها عن ذلك الخروج.

Ad

لقد خدع جونسون وزملاؤه من أنصار بريكست أغلبية بسيطة من الناخبين البريطانيين عندما أقنعهم أن الخروج من الاتحاد الأوروبي سيؤدي بطريقة أو بأخرى الى تقديم مبلغ إضافي لخدمة الصحة العامة البريطانية يصل إلى 350 مليون جنيه إسترليني (445 مليون دولار أميركي) كل أسبوعن وأثار بوريس جونسون المخاوف من أن عضوية بريطانيا بالاتحاد الأوروبي ستؤدي بطريقة ما الى هجرة جماعية من تركيا (التي هي في واقع الأمر موطن جد بوريس جونسون من ناحية الأب علي كمال).

على الرغم من احتمالية أن يجد جونسون نفسه في وضع يجب عليه أن ينفذ وعوده، فإنه يستمر في نشر الأخبار الزائفة وأهمها خرافة أن بإمكان بريطانيا أن تمزق اتفاقية الخروج التي تفاوضت بشأنها تيريزا ماي مع الاتحاد الأوروبي والامتناع عن التقيد بالتزاماتها المالية للاتحاد الاوروبي وبشكل متزامن البدء بالتفاوض بشأن صفقات تجارة حرة، لكن بالنسبة إلى أنصار جونسون هو نبي أكثر منه سياسيا، وهو فقط يستطيع أن ينفذ "بريكست حقيقي" أسطوري، بأن يقدم للناس الرفاهية التي تم تقديم وعود بتحقيقها خلال حملة الاستفتاء.

وكما هي الحال بالنسبة إلى الشعبويين فإن الواقع ليس له علاقة بمزيج جونسون الساحر من الوعود الكاذبة والوطنية الزائفة واستهداف الأجانب، فجونسون وزملاؤه المؤيدون لبريكست يتحدثون عن "بريطانيا العالمية" التي ستتاجر بشكل حر مع بقية العالم، وحتى لو جروا بلدهم الى طريق مليء بالعلاقات التجارية التي تم اقتلاعها وحواجز جديدة كبيرة في وجه التجارة.

فالقوة التجارية العالمية الحقيقية بالطبع التي توصلت مؤخرا الى صفقات تجارية مع اليابان وكوريا الجنوبية وكندا هي الاتحاد الأوروبي ، وبريطانيا كدولة عضو في الاتحاد الأوروبي ستستفيد بشكل تلقائي من الاتفاقيات التجارية الأربعين التي وقعتها المجموعة مع أكثر من 70 دولة. لو اختارت بريطانيا "بريكست قاسيا" وخرجت من الاتحاد الأوروبي بدون صفقة كما اشار جونسون عن استعداده لذلك، فإنها ستخسر فورا الميزه التفضيلية لدخول أسواق تشكل نحو 11% من إجمالي تجارتها (على الرغم من أن حكومة ماي وقعت صفقات استمرارية مع بعض البلدان، فإنها لا تغطي كمية التجارة نفسها بموجب الترتيبات الحالية لبريطانيا ضمن الاتحاد الأوروبي).

بالإضافة الى ذلك، يضع الاتحاد الأوروبي اللمسات الأخيرة على مفاوضات للتوصل إلى اتفاقية تجارة حرة مع تجمع ميركوسور (الارجنتين والبرازيل والبارغواي والأورغواي) وذلك كجزء من اتفاقية شراكة أوسع بين المنطقتين، وهذا سيعزز من وضع الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر القائد العالمي للتجارة المفتوحة، وعلى الرغم من أن الشركات الأوروبية تصدر بالفعل الكثير الى تجمع ميركوسور– 42 مليار يورو من البضائع سنة 2016 و22 مليار يورو من الخدمات سنة 2015- فإن حواجز التعرفة الجمركية تعتبر مرتفعة حاليا، حيث يواجه المصدرون الأوروبيون رسوما تصل إلى 35% على السيارات و20-35% على الآلات والمكونات المرتبطة بها و14% على المستحضرات الصيدلانية.

إن الصفقة التجارية المقترحة لا تفتقد للمعارضين بما في ذلك بعض المنظمات غير الحكومية والدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي والتي لديها صناعات لحوم أبقار كبيرة. يجب على مفاوضي الاتحاد الأوروبي أن يحققوا توازنا دقيقا لحماية حقوق جميع الأوروبيين عبر القطاعات الاقتصادية، كما يجب عليهم كذلك التعامل مع الأوضاع المتدهورة المتعلقة بحقوق الإنسان والبيئة في البرازيل والضغط من أجل التوصل لقواعد وأحكام تشجع الشركات على التصرف بمسؤولية وتطبيق معايير سلامة الغذاء وضبط موضوع تقليد منتجات الطعام والشراب الأوروبية.

بشكل عام فإن اتفاقية التجارة بين الاتحاد الأوروبي وتجمع ميركوسور– والتي ستصبح واحدة من أضخم الصفقات التجارية في العالم بحيث تضم 750 مليون شخص– هي صفقة رابحة تماما حيث ستخلق فرصا للنمو ووظائف للطرفين وفي وقت الولايات المتحدة الأميركية والصين في خضم حرب تجارية وتقنية مع عدم وجود حل في الأفق فإن لدى دول الاتحاد الأوروبي وتجمع ميركوسور فرصة لقيادة العالم في اتجاه أكثر تفاؤلا وإيجابية.

وإن هناك أسبابا استراتيجية قوية في واقع الأمر تدفع لإبرام الاتفاقية، وكما جادل مارتن ساندبو في جريدة فاينانشال تايمز مؤخرا فإن "الاتحاد الأوروبي لا يوجد لديه العديد من الفرق العسكرية... ولكن لديه شيء بالروعة نفسها تقريبا، وهو السلطة على أضخم سوق في العالم". يجب على الاتحاد الأوروبي استخدام قدرته الشرائية الجماعية على رفع المعايير العالمية وخاصة فيما يتعلق بالحماية البيئية.

فاختتام محادثات الاتحاد الأوروبي- تجمع ميركوسور بنجاح، سيرسل رسالة لبقية العالم عن قيمة وأهمية التجارة المفتوحة، ومع احتمالية أن يتولى جونسون مهام السلطة في أواخر يوليو فإن أوروبا تكون قد قدمت المزيد من الأدلة على أن بريكست ليس عملية غير ضرورية فقط، بل أيضا عملية تضر بالمصالح الاقتصادية لبريطانيا، وعندئذ ربما سيضطر أولئك المغامرون من المؤيدين لبريكست لشرح الشيء الذي لا يزالوا يتذمرون بشأنه.

* غاي فيرهوفشتادت

* رئيس وزراء بلجيكي سابق، وحاليا رئيس تحالف الليبراليين والديمقراطيين لمجموعة أوروبا ضمن البرلمان الأوروبي.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»