خارج السرب: أرأيت لو... هل ترى؟
أرأيت لو؟ هذا السؤال "الأرآتي" كان مبدأ الفقه الافتراضي الذي أسسه الأحناف وافترضوا به قضايا مستقبلية لم تحدث لإيجاد حلول فقهية مناسبة لها قبل أن يداهمهم المستفتون فجأة، وفي وقتنا المعاصر ظهر "الأرآتيون" في ثوب التاريخ لا الفقه، حيث اختلفوا عن الأحناف بافتراض مسار آخر لأحداث التاريخ في الماضي لا المستقبل، كما هي الحال عند جماعة أبي حنيفة، مثلا أرأيت لو انتصر هتلر في الحرب العالمية الثانية؟ ما الذي كان سيتغير؟ أرأيت لو تغلب ضمير ترومان على عقله بالضربة الإنسانية القاضية ولم يقصف اليابان بقنبلته الذرية؟ ما المسار الذي ستتخذه أحداث الحرب العالمية الثانية؟ وهكذا. هذه الأيام نحتاج فعلا إلى فزعة أهل الرأي الأحناف لمواجهة موجة التطبيع الهادرة أو الهاذِرة إن صح التعبير وسامحنا مولانا سيبويه، التطبيعي يقول لك لقد أضاع العرب أو الفلسطينيون تحديداً الفرصة تلو الأخرى لحل قضيتهم، ثم يذكرك بلجنة بيل 1936، وتقسيم الأمم المتحدة 1948 ، والقرار 242 في عام 1967 ، وكامب ديفيد وأخواتها وخالاتها وعماتها المستمرة حتى اليوم. وهنا سنفترض أن مسار التاريخ تغير حسب المذهب "الأرآتي" ووافق الفلسطينيون على كل ما سبق فما السيناريو المتوقع أن يحدث؟ أرأيت لو وافقوا على لجنة بيل خلال ثورة 1936 ، هل ستقوم الدولة الفلسطينية؟ طبعا لا، ففلسطين أصلا كانت محتلة، وكل ما سيحدث بعد الخنوع والخضوع هو تقديم اعتراف لدولة صهيونية على طبق من ذهب، وبدلا من حصول ذلك في 1948 سيعطيهم هذا الخيار 12 سنة مجانا مع فرصة لدخول السحب على المزيد من منتجات كرامة العرب المهدورة!
أرأيت لو وافقوا على التقسيم في 1948 وقرار 242 بعد النكسة؟ هل كانت الدولة الفلسطينية ممكنة؟ لا طبعا فالصهاينة كانوا وقتها يزحفون خارج ما قرره التقسيم، وبعد النكسة قضموا واجهة حدود فلسطين حسب قرار الأمم المتحدة، و"لهطوا" معها الارتداد العربي في سيناء والجولان أيضا؟ ناهيك عن عدم اعترافهم دوما بالقرار 242 ومحاولتهم التنصل من إرجاع الأرض كلها باستخدام قواعد النحو والصرف والألف واللام كما هو معروف، وهم يرفضون حتى اليوم حل الدولتين وبشكل قاطع، حتى أن كوشنر عراب صفقتهم لم يتجرأ حتى على ذكر حل الدولتين في مؤتمره الأخير!طبعا كل ما سبق يصلح للرد على التطبيعي العربي، ولكن التطبيعي الكويتي يحتاج لمثال آخر في السياق نفسه يوافق شنه طبقه، مثلا أرأيت أخي الكويتي لو قبل العالم بمبادرات صدام بعد غزوه لبلادك؟ هل تتوقع أن تجلس اليوم في بيتك آمنا مطمئنا لتقلب القنوات بريموتك الفاخر لتنظر على الشعب الفلسطيني وتدعى أنك تفهم أكثر منه بمنطق الكرامة، وأنك تفهم بحب الأوطان ومنطق السيادة أكثر من شعب قضى أكثر من ٧٠ عاماً وهو يحتضن جسد وطنه، وينافح عنه وحده أمام العالمين والأكوان الموازية؟! لا أظن ذلك، بل أنا مقتنع أن قضية وطننا حينها ستكون مجرد "رتويت" لقضية فلسطين، وسندخل مثلهم في دهاليز السياسة العالمية، وأدراج تهاون العرب والعجم ليجلس هو بذاته بعد عقود طويلة وأعوام مديدة وحيدا في مخيم للاجئين متوترا حزينا خاوي الفؤاد، يقلب كفيه حسرة على وطن لم يدافع عن ثراه كالأبطال، مفضلا المساومة والخنوع، ليخرج بعدها من ميلاد كرامته وسيادته خالي الوفاض. وقد صدق الراحل أمل دنقل: "لا تصالحْ! ولو منحوك الذهب... أترى حين أفقأ عينيك... ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى!" أخيرا قد قيل يا أهل التطبيع إن طبع كرامة الأوطان يغلب "التطبع الواطي" مهما طال الزمان أو قصر، وإن غداً لناظره قريب.