جنود سالامينا... رواية بنكهة التقرير الصحافي
مستوى التداخل بين الرواية والصحافة يشملُ عدة جوانب، ولا مُغالاة في القول إنَّ كل صحافي يتصفُ بما يؤهله لأنْ يكونَ روائياً، كما أنَّ الكاتب الروائي بدوره يدركُ ضرورة مُتابعة الصحافة، وما تتواردُ في حيثياتها من الأخبار والمواضيع التي قد تصبحُ مصدر إلهام بالنسبة إليه، هذا إضافة إلى وجود التشابك بين آليات السرد الروائي وأساليب توثيق المعلومة واستقصاء التفاصيل الدقيقة في الصحافة، ومن المعروف أن الاعتماد على الوسائط المتعددة من المكونات الأساسية في بناء التقرير الصحافي.
سلك عددُ من الروائيين هذا المنحى المُتشعب في سبك المادة المروية، طبعا ثمة اختلاف بين تقنية تعددية الأصوات وما يختارهُ الروائي من السرد الاستقصائي، ففى الحالة الأخيرة تخدمُ المُعطيات كلها بما فيها أصوات الشخصيات المذكورة في الرواية الحبكة، بينما الأمرُ يختلفُ في الرواية البوليفونية القائمة على وجود شخصيات مُستقلة، ولا يكونُ دورها مكملاً في مشروع البحث المُفصل عن الأسرار، مثلما تجدُ هذه الخاصية في الروايات المكتوبة بحسّ الصحافي، حيثُ يتميزُ الروائي الإسباني خافيير سيركاس في توظيفُ تقنيات الصحافة الاستقصائية لبناء روايته المعنونة بـ "جنود سالامينا"، الصادرة من هاشيت أنطوان، إذ يخالفُ المؤلفُ ما يتصدرُ به الروائيون أعمالهم بكلام ينفي صلة بين حقائق الواقع وأحداث الرواية وشخصياتها. إذ يشيرُ خافيير سيركاس إلى أن الشخصيات ذكرت بأسمائها الأصلية في روايته، وهذا ما حدا به ألا يتوارى وراء راوٍ مُصطنع، فالبتالي طابَ له الحضورُ باسمه الحقيقي، مع إدراك الفرق بين ما عليه شخصيتهُ في الواقع والدور الذي يقومُ به سيركاس في حيز السرد الروائي.
ذكريات
يفتتح السارد المُتلكم بضمير الأول، الرواية باستعادة ذكرياته الشخصية، لافتاً إلى ما مرت به حياتهُ قبل معرفة قصة إعدام رافايل شانسز مازاس، حيث توفي والده، كما أن زوجته هجرته، إضافة إلى تخلّيه عن مهنة الكتابة الصحافية وانكبابه على كتابة الرواية، غير أنَّ هذا القرار لم ينفعه، واتضح له واقعه البائس بعدما لاقت رواياته إهمالا، مما أدى به نحو حالة التأزم على المستويين الروحي والمهني، والحال هذه لم يعد له اختيارُ غير العودة إلى عمله الصحافي والقناعة براتب زهيد، وبذلك تخلى عن حلمه بأن يكونَ روائياً.أكثر من هذا نُعت بالخائن، لأنَّه آثر صنعة الرواية على حرفة الصحافة. لكن عودة السارد إلى عمله السابق وتحريره صفحة الثقافة يمكنُ وصفه بانطلاقة جديدة في كتابة العمل الروائي، إذ إن ما توفره له الصحافة من فرصة اللقاء بفرلوزيو، وهو ابن شانز مازاس الذي حُكم عليه بالإعدام إبان الحرب الأهلية الإسبانية يجددُ الأمل لدى سيركاس لتحقيق مشروع عمره.ما سردهُ الابنُ عن والده واختبائه في الغابة والمُقاتل اليساري الذي يكشفُ موقع شانز مازاس دون أن يقضي عليه، كل ذلك يزيدُ الموضوع تشويقاً، إلى أن يبدأ الصحافي عملية التنقيب حول تلك الشخصية المثيرة للجدل والمُتعددة الأبعاد، فكان رافايل شانز مازاس شاعراً كاتباً روائياً، ومنظراً للكتائب الإسبانية، وهي وجه آخر للفاشية الإيطالية التي قرأَ مازاس أدبياتها وتشرّب بأفكارها عندما عملَ مراسلاً صحافيا في روما أكثر من ذلك حمّلهُ نفرٌ من المُتعاطفين مع الجمهوريين مسؤولية تأجيج الحرب الأهلية الإسبانية، مما يعني أن هذه الشخصية تميزت بالقدرة على صناعة الحدث. وما شدَّ الصحافي إلى عالم مازاس هو قصة نجاته التي تتطلبُ البحث عن وقائعها، وهذا ما يتكفلُ به الراوي المُتماهي مع شخصية المؤلف.سيولة الروايات
إن المقالة التي ينشرها سيركاس بمناسبة مرور الذكرى الستين على نهاية الحرب الأهلية الإسبانية 1939 يفتحُ له ممرات نحو مكامن هذا التاريخ، حيث يلتقي أحد المُعلقين على المقال، وهو ميكيل أغيري، فالأخير كان مؤرخا مطلعا على المرحلة التي وقعت فيها الحرب ومادار بمنطقة بانيولس، ويسمع من المؤرخ بأنّ رجلا آخر قد حالفه الحظُ، ونجا من الإعدام يدعى خسيوس باسكوال الذي دونَّ تفاصيل الحدث في كتاب بعنوان "قتلنى الشيوعيون" تستمر متابعة الراوي بعد قراءة ما دونه باسكوال، حيث تردُ في كتابه جملة تتكرر في الصفحات الأخرى "في اللحظة الأخيرة دائماً يكون إنقاذ الحضارةِ على يد فصيلة من الجنود"، إلى أن يقرأ شهادة ترابييو ويلفتُ نظره التطابق بينها وبين ما ذكره في مقاله كما تعينُه المصادفة على رؤية صور شانسز مازاس في حجرة أرشيف الأفلام السينمائية.إلى جانب ذلك ينبشُ في سجل أسماء السجناء في عهد فرانكو، والأهم في هذه السيولة من المعلومات هو الأغنية الشعبية الباسادوبلي (تنهدات إسبانيا)، التي يصدح بها غجريان في المكان الذي ينتظرُ فيه ابنُ أحد أصدقاء الغابة خومي فيغيراس. وهم كانوا أفرادا فارين من صفوف المحاربين وسكنوا في مزرعة كاسانوفا ويعاينُ الراوي بعض المواضع التي مرَّ عليها سانشز مازاس. يُذكر أن الإشارة تتوارد إلى الباسادويلي في المقاطع اللاحقة، بل هي بمنزلة موتيف أساسي للنص ما يلملمهُ سيركاس عن الُمنظِر الفاشي، وتأكده من صحة يومياته التي يأخذها من خومي تراوده فكرة كتابة الرواية من جديد، ويخبرُ عشيقته كونشي بذلك الأمر، لكنّ الأخيرة لا تعجبه إلا الشخصيات المناوئة لفرانكو، إذن فإنَّ الثغرة الوحيدة في مشروع سيركاس هي البطل الذي تنتظمُ بوجوده حلقات الرواية. ولن يكون هذا البطل سوى الجندي الذي لم يُطلق النار على مؤسس فكرة الفاشية في إسبانيا.المنسي
يضمُ القسم الثاني من الرواية ما عاشه شانسز مازاس، بعدما تكتبُ له الحياةُ من جديد، إضافة إلى استعادة قصة هروبه من مدريد، ومن ثمَّ اعتقاله في جيرونا. وفي القسم الأخير تبدأُ رحلة سيركاس عن الشخص الذي كان في قلب الحدثِ، بل يُعقدُ عليه حلقات الرواية، ولا يفلحُ الراوي من الوصول إلى ما يبحثُ عنه إلا عن طريق عمله، إذ يُكلف بإجراء سلسلة من الحوارات مع شخصيات مرموقة، وكان روبيرتو بولانيو من الأوائل الذين يُقابلهم، حيثُ يمضي أيامَهُ في قرية واقعةٍ بين جيرونا وبرشلونة. يمررُ الراوي نتفاً من سيرة بولانيو وما يتذكرهُ عن انقلاب بينوشيه ومُعاناته مع المرض والحرمان، وتجربة السجن القاسية. يفاجأ الصحافي بمعرفة بولانيو لاهتماماته الروائية وإعجابه لما نشره بعنوان "المستأجر" هنا ينفتحُ قوس الحوار على مكونات الرواية ودور المُخيلة والذاكرة في بناء العمل الروائي. كما يُفصلُ الكاتبُ التيشيلي في الحديث حول مفهوم البطل، إلى أن يخبر مُحاورهُ بقصة ميرايس ومُصاحبته لمنضويين في مُخيم "نجمة البحر" عليه، فإنَّ الراوي ينقلُ على لسان بولانيو تجارب ميرايس مع الحرب الأهلية وانضمامه إلى وحدة من الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية وافتتانه بلوز التي كانت مومساً، إذ رآهما بولانيو يتراقصان وكان المُحارب يغني باسادوبلي، الأمر يدفعُ سيركاس لربط ما جمعه عن الحرب الأهلية الإسبانية، متخيلا أن ميرايس هو من نظر إلى عيني شانسز مازاس ولم يقتله.هنا لا يخيبُ السردُ، وتوالي الأحداث أفق توقّع القارئ، بعدما يقابلُ الصحافي المحاربَ الذي يذكرك مرحه بزوربا اليوناني في مأوى نيمفيا في فونتين تنحلُ عقدة غياب البطل التي تحركُ آلة السرد، ولم يكن ذلك المقاتل الذي يغني باسادولي سوى ميرايس يشار إلى أن من بين الروائيين العرب ثمة مَن حاول حياكة مادته السردية على غرار خافيير سيركاس، ولعل الكاتب والروائي العراقي على بدر من أبرزهم.
خافيير سيركاس يحضر بشخصيتهُ الواقعية في حيز السرد الروائي