قبيل مغادرة الرئيس ترامب واشنطن للمشاركة في قمة مجموعة الدول العشرين في اليابان، ادعى خلال مقابلة متلفزة أن "أوروبا تعاملنا بطريقة أسوأ من الصين"، لكن عقد هذه القمة بحد ذاته، وخصوصاً لقاء الرئيس الأميركي القائد الصيني شي جين بينغ، يذكّرنا بأن الولايات المتحدة وأوروبا ما زالت إحداهما تحتاج إلى الأخرى، وأن هذا الوضع لن يتبدّل في المستقبل المنظور.إذا أردنا أن نفهم ما قاد الائتلاف العصري عبر الأطلسي إلى النقطة المفصلية الحالية، فلا بد أن نتذكّر أصوله. كانت القوى الأوروبية محطمة عقب الحرب العالمية الثانية، لكن قادتها، الذين واجهوا مهمة إعادة بناء قارتهم في ظل الخطر السوفياتي الشيوعي، صمموا على بذل قصارى جهدهم ليتفادوا صراعاً عالمياً آخر. وبغية تحقيق السلام والازدهار، سمحوا للولايات المتحدة بالاضطلاع بدور ريادي في تنظيم القارة سياسياً بعد الحرب.
تشكّل أوروبا راهناً الاقتصاد الأكبر في العالم، وصار خطر نشوب حرب محدوداً جداً، وفي المقابل على الولايات المتحدة التصدي لنهضة الصين الاقتصادية وجرأة بكين المتنامية، فلا عجب في أن الائتلاف عبر الأطلسي فقدَ جزءاً من تماسكه.على غرار محاولة الرئيس أوباما الاستدارة نحو آسيا، يستند تركيز إدارة ترامب الحالي على الصين إلى حدس استراتيجي سليم، لكن ترامب يخطئ بجمع الصين والاتحاد الأوروبي معاً، معتبراً إياهما خصمين للولايات المتحدة. في الواقع، تحتاج الولايات المتحدة إلى أوروبا كي تواجه الصين، ومن المؤكد أن الأميركيين والأوروبيين سيتمكنون من محاسبة الصين بفاعلية أكبر من خلال البنى التجارية القائمة المتعددة الأطراف وردود الفعل المنسقة، بدل أن يعتمدوا على "صفقات" ثنائية منفصلة.إذا واصلت الدول الأوروبية الترحيب بالاستثمارات الصينية ولم تأبه بنمو النفوذ الصيني، فلا شك أن مهمة الولايات المتحدة ستزداد صعوبة، ويشكّل الجدل الدائر حول السماح للصين ببناء الجزء الأكبر من الجيل الخامس التالي من شبكات الاتصالات اللاسلكية الأوروبية مثالاً جيداً يبرز هذه المخاطر، ولكن لا تقتصر الخطوات الضرورية لدفع أوروبا إلى الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة على وقف خطاب ترامب، بل على الأميركيين أيضاً أن يقدّموا لحلفائهم استراتيجية واضحة متماسكة تستطيع الحكومات الغربية دعمها.طوال عقود، لم يعتمد الأوروبيون على القوة العسكرية الأميركية فحسب، بل تلقوا أيضاً الإشارات الجيو-سياسية من واشنطن، ورغم كل الكلام عن "الاستقلال الاستراتيجي"، وخصوصاً بعد انتخاب ترامب، تفتقر القارة إلى الثقاقة الاستراتيجية الضرورية لتعمل بشكل مستقل عن الولايات المتحدة.إذاً، ينبغي للأوروبيين والأميركيين التوصل إلى لغة مشتركة، سواء أعجبهم ذلك أم لا، ففي البيئة السياسية الحالية تقتضي مصلحة جانبَي الأطلسي المشتركة أن يضمنا ألا تخضع مجموعة القواعد الدولية التي بنياها بعد الحرب العالمية الثانية لمراجعة في العقود المقبلة من قبل دولة صينية مستبدة واسعة النفوذ اقتصادياً. ويُظهر استطلاع للرأي أُجري أخيراً أن عدد مَن يعتبرون في ألمانيا أن الولايات المتحدة خطر يهدد السلام العالمي يعادل عدد مَن يملكون وجهة النظر ذاتها في روسيا، بالإضافة إلى ذلك، يريد 72% من المشاركين أن تكون السياسة الخارجية الألمانية أكثر استقلالاً عن سياسة الولايات المتحدة.لكن العقبة الكبرى أمام الشراكة المتجددة عبر الأطلسي تبقى حتى اليوم عدم ثقة المشروع الأوروبي تلقائياً بأوساط السياسة الخارجية الأميركية، ولا شك أن محاولات استغفال بروكسل وعقد صفقات مع دول منفصلة تفاقم عدم ثقة الولايات المتحدة بأوروبا.بخلاف ما يعتقده محافظون أميركيون كثر على ما يبدو، الأمم الأوروبية ملتزمة حقاً بمشروع الاندماج الأوروبي. صحيح أن الاتحاد الأوروبي قد يبدو غريباً بالنسبة إلى عدد كبير من الأميركيين، غير أنه يضطلع بدور لا يستطيع حتى أبرز منتقديه في القارة الأوروبية إنكار أهميته، فلا أحد يتوقع من الولايات المتحدة أن تحب الاتحاد الأوروبي. تقوم الخطوة الأولى الجيدة على تقبّل أن الجهود العابرة التي تبذلها هذه الإدارة لإرغام الأوروبيين على الاختيار بين بروكسل وواشنطن تؤدي دوماً إلى نتائج عكسية.لم تكن الشراكة عبر الأطلسي يوماً مثالية، ولطالما شابتها اختلافات في الرأي، لكن هذا لا يعني أن الأوروبيين والأميركيين لا يحتاج أحدهم إلى الآخر. هذا مؤكد، وحري بالسياسيين في جانبَي الأطلسي أن يتصرفوا وفق ذلك. * «داليبور روهاك»
مقالات
الأميركيون والأوروبيون يحتاج بعضهم بعضاً
04-07-2019