وجّه سكان إسطنبول ضربة غير مسبوقة إلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، منتخبين نجماً يزداد بروزاً من معسكر المعارضة، أكرم إمام أوغلو من حزب الشعب الجمهوري، ليكون عمدة المدينة الجديد بهامش 44% إلى 54%. تبوأ أردوغان في الماضي هذا المنصب الأعلى في بلدية إسطنبول التي تعد 16 مليون نسمة، ويُعتبر هذا المنصب مركز قوة مهماً في السياسات التركية، فقد ردد أردوغان دوماً: «مَن يخسر إسطنبول يخسر تركيا».ولكن ماذا سيتبدّل بالتحديد بعد خسارة يوم الأحد؟ ما زال أردوغان القائد المُهاب المطلق في تركيا، الذي استطاع عام 2017 تبديل دستور البلد ليحوّل نظامه البرلماني إلى نظام رئاسي يمنح الرئيس صلاحيات فائقة. وبما أن الانتخابات العامة المقبلة ستُعقد، حسبما يُفترض، في عام 2023، فقد تكون الاحتفالات التي عمت مختلف أحياء إسطنبول العلمانية والمعارضة فرحاً بهزيمة أردوغان سابقة لأوانها سياسياً، ولكن قد لا تكون كذلك أيضاً.
لطالما شكّلت إسطنبول الجزء المحوري في شبكة حزب العدالة والتنمية الحاكم المالية والاجتماعية. تضم هذه البلدية نحو عشرة ملايين ناخب وتبلغ قيمة ميزانية فروعها التجارية مجتمعةً 9.5 مليارات دولار، سيحاول أردوغان على الأرجح أن يحد من صلاحيات العمدة الجديد ونفوذه المالي بواسطة التشريعات، إلا أن إمام أوغلو سيملك بين يديه بنية مذهلة، هذا إن لم نتحدث عن سجلات دعم البلدية لماكينة حزب العدالة والتنمية وتحويل الأموال إلى مؤسسات، ومجموعات دينية، ووسائل إعلام موالية للحكومة. سيكون المجال متاحاً أمام إمام أوغلو ليستثمر موارد هذه البلدية الضخمة كي يبني قاعدة سياسية ومالية تجذب الفقراء في المدن، الذين شكّلوا دوماً جوهر أصوات حزب العدالة والتنمية، بالإضافة إلى ذلك، قد يشجّع تاريخه مجتمع الأعمال ليرفع صوته ضد سياسات الحكومة، ويقود إلى تأسيس وسائل إعلام جديدة تنهي هيمنة حزب العدالة والتنمية على عالم الإعلام.أما من وجهة النظر السياسية البحتة، فيُعتبر انتصار المعارضة مهماً لأنه يشجّع مَن شكّلوا سابقاً شخصيات بارزة في حزب العدالة والتنمية، مثل عبدالله غول وعلي باباجان اللذين يخططان لينطلقا في حزبهما السياسي الخاص قريباً، مستميلين على الأرجح بعض أعضاء حزب العدالة والتنمية في البرلمان خلال السنوات القليلة المقبلة.علاوة على ذلك، سيمنح انتصار إمام أوغلو المعارضة التركية المجزأة زخماً جديداً، مرسخاً التحالف القائم بحكم الواقع بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير وحزب الشعوب الديمقراطي اليمينيين الوسطيين. تعاني كتلة المعارضة الانقسامات الداخلية السياسية والعقائدية، فضلاً عن أنها لا تتمتع في البرلمان بعدد كبير من الأعضاء كي تطالب وحدها بعقد انتخابات عامة مبكرة، لكن هذه الأحزاب معاً تستطيع أن ترفع الصوت بفاعلية أكبر، حتى إنها قد تعمل مع شريحة من حزب العدالة والتنمية للدعوة إلى انتخابات مبكرة، وخصوصاً في بيئة من التراجع الاقتصادي كتلك التي تواجهها تركيا اليوم.نظراً إلى حالة الركود والضعف التي يمر بها حزب العدالة والتنمية اليوم، بدأ كثيرون في الأوساط السياسية والتجارية التفكير في احتمال تنظيم انتخابات عامة في عام 2020، لكن المسألة التي لا تزال غامضة في هذه المعادلة السياسية هي مدى استمرارية تحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية، وما إذا كان غول وباباجان سيؤلفان حزبهما الجديد في الوقت المناسب ليسلبا حزب العدالة والتنمية بعض أعضائه الحاليين في البرلمان.في هذه الأثناء، تستعد أنقرة لاحتمال مواجهة عقوبات تفرضها الولايات المتحدة على قطاعها الدفاعي بعدما قررت شراء أنظمة دفاع جوي روسية من نوع إس- 400 رغم معارضة حلف شمال الأطلسي وإدارة ترامب، فقد رفضت أنقرة اقتراح الولايات المتحدة «تعليق» عملية الشراء هذه في شهر مايو. ومن المتوقع أن يصل النظام في شهر يوليو، مما سيفرض تطبيق قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة من خلال العقوبات كما حدد الكونغرس. كذلك يحذّر المسؤولون الأميركيون من أن تركيا قد تُستبعد من عملية بيع طائرات إف- 35 الحربية، مع أن أنقرة شاركت في إنتاج هذه الطائرات، كذلك ثمة خطط للحد من التحالف الاستراتيجي بين واشنطن وأنقرة بخفض اعتماد الولايات المتحدة على القواعد العسكرية التركية.لا شك أن هذه كلها لا تُعتبر أخباراً جيدة بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، الذي يعاني تضخماً حاداً، بطالة منتشرة، وتراجعاً كبيراً في ثقة المستهلك. صحيح أن الحكومة تخبر الأسواق بأن عقوبات قانون مكافحة أعداء الولايات المتحدة هذا ستكون خفيفة نسبياً على الارجح، وأن الشركات التركية تستطيع تخطي هذه التدابير، إلا أن التأثير الاقتصادي للخلاف الذي نشب بسبب احتجاز تركيا رجل دين أميركياً في شهر أغسطس الماضي يقدّم أسباباً وجيهة للحذر. فقد أدى انهيار المفاوضات بشأن إطلاق سراح رجل الدين هذا (الذي سجنته السلطات التركية بتهم إرهاب وتجسس ملفقة) وتغريدات ترامب عن أنه «سيقوّض» الاقتصاد التركي إلى انخفاض حاد في قيمة الليرة وكاد أن يسبب تهافتاً على المصارف التركية.لا شك أن انتصار إمام أوغلو قد يدفع المعارضة إلى الاحتشاد حوله وتحويل إسطنبول إلى المركز الجديد لسياسات المعارضة، لكن ما نجهله هو رد فعل أردوغان تجاه ذلك، وقد هنّأ الرئيس التركي إمام أوغلو عبر تويتر وعكس الخطاب الذي وجهه إلى حزب العدالة والتنمية لهجة مصالحة، ولكن تظهر تقارير عن أن أردوغان يميل إلى تشجيع حاكم محلي على توجيه تهم مشوّهة للسمعة إلى إمام أوغلو، مما يعزز إمكان إزالة العمدة الجديد من منصبه.يبدو جلياً أن أمام عالم السياسة التركي صيفاً ساخناً، فقد وجّه سكان إسطنبول قبل أيام رسالة كبيرة إلى الحكومة التركية، متصدين لميولها الأكثر استبداداً، إلا أننا لا نعرف ما إذا كان في أنقرة مَن قد يصغي.أسلي أيدينتاسباس*
دوليات
ماذا ستبدّل انتخابات إسطنبول؟
05-07-2019