حكايات مريرة
ليست حكاية أبي حسن، الرجل البدون المسن الذي لمّا تستطع الدولة بعد التصرف في "وجوده" حيث لا يزال يأوي في سكن وفرته له جمعية النجاة مشكورة، ولكن من دون العناية والمتابعة المطلوبتين لمن هم في سنه وحالته الصحية، واللتين بسبب غيابهما، أي العناية والمتابعة، تتدهور حالته وحالة مسكنه الصحيتان كل يوم، حيث يرافق أبا حسن عامل نظافة بسيط، والذي يرفض الآن إكمال مهمته، معذوراً، حيث إنه فعلياً غير مؤهل لهذا النوع من الرعاية التخصصية، أقول ليست حكايته حكاية بسيطة لرجل مسن "مقطوع من شجرة" تكالبت عليه ظروف الدنيا وسنواتها، حكاية أبي حسن حكاية بعيدة، تستعرض ما تفعله النظرة العنصرية في حل الأمور والسياسة الجائرة القامعة التي لا ترى أبعد من الضغط والتضييق على المدى القريب والبعيد. قصة أبي حسن تروي حكاية بسيطة مباشرة لسياسة فاشلة استمرت ثلاثين عاما وتزيد عناداً وعنصرية لنجني اليوم جميعاً ثمارها الفاسدة المريرة. حكايا مكلفة هي تلك التي لأبي حسن وأمثاله من بدون الكويت، ليس اجتماعياً وأمنياً ونفسياً على المجتمع ككل فقط، ولكن اقتصادياً كذلك، مما يستدعي السؤال: ما الذي يدفع بالحكومة لمثل هذه القرارات المكلفة جداً على خزينة الدولة وعلى حيوات أفرادها وأمنهم، والتي لا عائد حقيقيا لها في حل المشكلة؟ دعونا نعد للبداية، قبل ثلاثين سنة أو تزيد، حين كان أبو حسن في الخمسين، حينها قررت الدولة أن تفرض سياسة التضييق على البدون عامة، فأخرجتهم من المدارس الحكومية، سرحتهم من وظائفهم، ضيقت عليهم في الرعاية الصحية، صعّبت عليهم استخراج الأوراق الرسمية، عزلتهم في مناطق بعيدة من الدولة، دفعتهم دفعاً لشراء جوازات مزورة، وحين فشلت هذه الخطة فشلها الذريع الذي نرى تداعياته اليوم، أتت فكرة شراء جنسية من دولة فقيرة، لتنتهي هذه الفكرة نهاية مزرية كذلك، وصولاً إلى حل اليوم المتمثل بالخطة المرتبة لإنهاء كل وجود للبدون، ليس بدنياً، ولكن معنوياً. كل بدون حين يذهب إلى الجهاز المركزي لاستخراج ورقة أو إنهاء معاملة، سيوقع (عمياني، قبل النظر فيما يوقع عليه) على صحة المعلومات الواردة في الأوراق، ليتسلمها وعليها مؤشر جنسية ما، هو وحظه، في خطة ممنهجة لإنهاء الوجود البدوني في الكويت وتحويل الجميع إلى "مقيمين بصورة غير قانونية" كما يقول "اسم" الجهاز المركزي. وماذا عن الوجود المادي لهم؟ لا أحد يعرف كيف ستتصرف الدولة في ذلك، فإلغاء وجودهم في الأوراق لن يخفيهم من الوجود المادي، وإبعادهم غير وارد حيث لا توجد دول تستقبلهم. في الغالب سينفجر الحل في وجوهنا كما انفجر حل الجوازات المزورة قبله، فالجنسية التي يلزم بها الجهاز البدون لا يستطيع أن يلزم بها الدول المعنية، ليبقى الوضع على ما هو عليه، ولكن بعذاب وإهانات أكبر للبدون. المهم، بعد أن مر كل ذلك على أبي حسن (كرمز للحالة البدونية) ماذا صنع ذلك في حياته؟ تعالوا ننظر لها بالمنطق البحت.أبو حسن أصبح فقيراً، فسياسة مثل المذكورة أعلاه تحرم البدون من الشهادة، وبالتالي تحرمه من فرصة عمل جيدة إن لم تحرمه من فرصة عمل بالمطلق. يكبر أبو حسن وقلبه يمتلئ بالهموم وجسده بالأمراض من جراء غياب الرعاية الصحية الفاعلة والمسكن الصحي المقبول والمدخول الذي يحفظ له أدنى درجات الكرامة الإنسانية. معظم البدون الذين يعيشون هذه الظروف ينتهون الى الوحدة كذلك، حيث يهاجر من يهاجر من أهاليهم للخارج لجوءاً وطلباً لحياة إنسانية كريمة، وحيث يعزف البعض منهم (العدد يتزايد الآن) عن الزواج خوفاً من المصير الذي ستلقاه عوائلهم المستقبلية والذي سيكون في الغالب امتداداً لمصائرهم.
إلى ماذا تنتهي هذه السياسة إذاً؟ إلى فئة عريضة من البدون، يكبرون بلا تعليم حقيقي أو مسكن صحي أو وظيفة ثابتة تكفيهم شر الحاجة وتحفظ كراماتهم. يهرمون بسرعة، يمتلئون بالأمراض ويعيشون في وحدة. من الذي سيتورط الآن؟ الدولة هي المسؤولة بالطبع، ولكن الدولة لا تسمح بدخول المسنين البدون لدار المسنين، فما الحل؟ تتعاون الدولة وجهة خيرية لتأجير سكن لهذا المسن، وتتكلف بمصاريف سكناه وعلاجه غير الناجعين أصلاً نظراً لحاجة هؤلاء لعناية تخصصية ورفقة خبيرة دائمة في التعامل مع المسنين، وستأتي سنوات وسيقبل علينا فوج من مثل حالة أبي حسن، مسنون مقطوعون، لا أهل يحوطونهم، بعد أن شردتهم السياسات الجائرة في أنحاء الأرض، لا أبناء يرعونهم إن كانوا ممن عزفوا عن الزواج، لا وظيفة، لا تأمين، لا تعليم ولا حتى مبلغ ماليا بسيطا يستعينون به في حفظ شيباتهم وإنهاء حياتهم بكرامة. ماذا ستفعل الدولة بالفوج الذي لابد أنه قادم والذي صنعته هي بسياساتها العازلة؟ في الغالب، ودرءاً للإحراج، ستنشئ الدولة صندوقا خيريا يثقل كاهلها وكاهل الجمعيات الخيرية ليصرف على مأوى وعلاج هؤلاء ممن وصلوا إلى مرحلة العجز التام بسبب سياساتها هي تحديداً، وذلك بمعزل عن مأوى الكويتيين وعن خدماتهم الصحية، لأنه على ما يبدو اختلاط الكويتيين بالبدون، حتى وهم عجزة مسنون، هو المعضلة الأكبر التي يجب تفاديها بأي ثمن في البلد الآن. تذكرني هذه القصة بقصة التعليم، حين عزلت الدولة البدون عن المدارس الحكومية، ولكن وبسبب التزامها بعهود دولية تفرض عليها تعليم كل طفل على أرضها، اضطرت أن تنشئ صندوقا تعليميا لدفع رسوم الأطفال البدون الذين أخرجوا من مدارسهم الحكومية ووضعوا في مدارس أهلية خاصة متواضعة المستوى، مدارس تفرض عليهم رسوم امتياز لا يتكفل بها الصندوق، وتشكل عبئاً ثقيلاً على الأسر، وهذا موضوع آخر.المهم أن حكومتنا، تشبثاً بإجراء لا هو إنساني ولا هو منطقي اقتصادياً أو اجتماعياً، قررت خلق فئة معزولة من الصغار، في مناطق بعيدة وفي مدارس متواضعة، ثم كلفت نفسها الملايين صرفاً على الصندوق التعليمي لضمان عزلهم، في حين أنه لو بقي أطفال البدون في المدارس الحكومية، فلن يتعدى عددهم الأربعة عشر طالبا لكل مدرسة حكومية في كل أنحاء الكويت، أي أنهم سيذوبون ذوباناً، لن يشعر بهم أحد ولن يكلفوا الدولة ديناراً واحداً إضافياً، ليتخرجوا بعدها ويصبحوا قوة مساهمة فيها، ولكن من يريد ذلك، حين يكون هناك خيار العزل والقمع وإنشاء الصناديق التي تكلف الملايين؟سياسة الدولة تجاه البدون خلقت فئة مقموعة معزولة، فقيرة مالياً وعلمياً، وأي حكمة تلك التي تدفع الدولة لأن تخلق، عمداً ومع سبق الإصرار والترصد، طبقةً فقيرةً معوزةً على أرضها، لتثقل كاهل نفسها وكاهل مجتمعها بالعناية بهم في مراحل لاحقة في الحياة؟ أي حكمة في الإصرار على إجراءات تخلق لديها أطفالا يبيعون في الشوارع ومسنين يسكنون بيوت صفيح وأسرا ندفعها دفعا للاستجداء، في حين كان بالإمكان أن يكون كل هؤلاء قوى فاعلة مفيدة مضيفة للمجتمع؟ أي عناد وعنصرية وتعنّت تجعلنا نخلق مشكلة إنسانية عويصة لأنفسنا في حين أن عددنا ومقدراتنا تتيح لنا أن نحل المشكلة بأكثر الطرق إنسانية وأشرفها سياسياً وأسلسها اجتماعياً؟ لماذا نفعل ذلك؟