كتبتُ مقالاً ربما قبل خمس عشرة سنة بالعنوان ذاته "قراءة بيضاء قراءة ملوّنة"، تطرقت فيه إلى ضرورة أن ندخل النص بعزيمة ونيّة قراءة بيضاء. قراءة مُحِبّة، قراءة تاركة وراءها كل التقييمات السابقة للكاتب، سلباً أو إيجاباً، وغير ملتفتة إلا لخوص غمار قراءة تتخذ من إبداع وجدة وفكر ولغة وإنسانية النص معاير فنية لتذوقه، ومن ثم إصدار حكم نقدي يخصّه.قراءة بيضاء بعيدة عن دوائر الصداقات والشللية البائسة، وبعيدة عن علاقات المصلحة والمصالحة، وبعيدة عن حسابات الدولار، وميزان نفّعني ونفّعك. قراءة بيضاء محبّة تتسلح بوعي نقدي إنساني شخصي علمي وشفاف، يكتشفُ النص بوصفه إبداعاً بشرياً يحاكي الواقع ويتفوق عليه بقدرته على كسر وتجاوز قوانين الواقع القاسية واللاإنسانية. ويعبرُ ضفاف نصٍ مبدع بمغامرة كتابة جديدة تقدّم ما يعجز الواقع المعاش على الإتيان به.
قراءة بيضاء، بعيدة عن حسابات النشر والناشر، والجوائز، وعدد الطبعات، وجنس الكاتب وجنسيته. قراءة تتخذ من النقد الأدبي العلمي والموضوعي والمتجدد ميزاناً حساساً لقراءة النص الأدبي، وتؤمن بأن النقد إبداع على إبداع، وأن مهمة الناقد لا تقلّ بأي حال من الأحوال عن مهمة الكاتب. وأن الناقد الحي بلغته وفكره المتوقد وخبرته الثقافية الشاسعة إنما يقدِّم مفاتيح لقراءة المتن الأدبي، ويكونُ بذلك رافعة حقيقية تحمل النص إلى شواطئ القراءة الفاحصة والممتعة، وتأخذ جمهور القراءة إلى هضاب ووديان نص ليس من السهولة التعرف والوصول إلى مغاليقه الموحية والجميلة.قراءة بيضاء تعتمد على ناقد حرٍّ وشريف ومتمرس يعرف جيداً أدواته النقدية وجملته النقدية النافذة، ويعرف أيضا قدسية وقيمة النشر الصادق وتأثيره على جمهور القراءة. وأخيراً يعرف كم هي ثقيلة كلمة الحق، وكم هو باهظ ثمنها، لكنه بالرغم من ذلك يسير على جمر دربها بغية وصوله لاسم وسمعة يشرِّفان صاحبهما، وعزة نفس تعصم صاحبها من غرق رخيص في ملذات عابرة.قراءة بيضاء تخالف ما عاد منتشراً اليوم ومجانياً، من جملٍ سطحية فقيرة تعتمد على الصداقة والمجاملة، وتنهض على جملة في "تويتر" أو لقطة انستغرام، أو فقرة "فيس بوك". نعم، منذ ما يزيد على عقد من الزمن، طفا على سطح الساحة الثقافية العربية أسلوب دعاية مجانية للنص الإبداعي. دعاية تبدأ باسم الكاتب وجنسه وجنسيته وعمره ونظرة عينيه وجماله ووسامته، شاباً كان أو فتاة. دعاية تتخذ من اسم الناشر وسطوته جسراً لتمرير نص أعرج، وتتخذ من المجاملات أعلاماً مرفوعة ترفرف على سارية نص بائس، يفتقد لتحقيق العناصر الأساسية لأي جنس أدبي. ساحة النقد العربية، في حالها الغالب اليوم وليس بأجمعها، ما عادت تعيش عصر القراءة البيضاء النقيّة، القراءة المُحِبة، القراءة المنصفة، وما يتبعها من نقد أدبي علمي مرجعي موضوعي جريء وشجاع. لكنها تعيش عصر القراءة الملوّنة. القراءة التي يدخل القارئ أو الناقد إلى نصها وهو يضمر قراءة محِبة أو كارهة، ويضمر أيضاً تشويه النص بما فيه أو ليس فيه، أو كتابة موضوع جيد عن صديقه أو صديقته أو زميله في دار النشر، أو شخص وعده بدعوة لمهرجان أو معرض كتاب أو محاضرة. قراءة ملوّنة تُنحّي معايير النقد الصحيح والشفاف، وتعلي من معايير النيّة المبيّتة والعلاقة الشخصيتين. قراءة ملوّنة قادرة على أن تجعل من نص لا علاقة له بالرواية بعظمة روايات ديستويفسكي، أو كافكا، ونص قصصي مفكك بعظمة قصص تشيخوف أو موبسان. قراءة ملوّنة، تتوجه لجمهور كبير، يتخذ من بيوت وسائل التواصل الاجتماعي، والعالم الافتراضي مكاناً أثيراً لوجوده. قراءة ملوّنة تدرك أهمية ودور محركات البحث على الإنترنت في حياتنا الراهنة، وتراهن على أن مقالاً يُكتب في أستراليا أو هولندا أو مصر أو العراق أو بيروت أو تونس أو الرياض أو دمشق، أو البحرين أو الكويت أو المغرب، أو أي بقعة في العالم، قادر خلال لحظات على أن يأخذ مكانه على سطح شاشة أي كمبيوتر شخصي، أو لوح "آب باد" أو شاشة تلفون نقال ذكي.نعيش في لحظة زمنية صار طبع ونشر كتاب أمراً سهلاً، وهذا مبعث بهجة بانتشار الكلمة والكتاب والقراءة والثقافة والفكر. لكن على الوجه الآخر، اختلطت المعايير، وربما جار النابل على الحابل!
توابل - ثقافات
قراءة بيضاء قراءة ملوّنة!
10-07-2019