نجاح السودانيين في الوصول إلى حل سياسي في صراعهم مع البدائل والاحتمالات، دليل قاطع على أن العالم العربي استفاد من بعض دروس وأخطاء تجارب "ربيع 2011"، وبخاصة في سورية وليبيا، حيث أدرك الكل أن الأنظمة التسلطية لا ترحل بسهولة، كما لا يمكن تنظيف مخلفاتها بسهولة كذلك!إن ثورة السودان الحالية حققت على الأقل ثلاثة إنجازات حتى الآن، فقد أطاحت بدكتاتورية عقائدية إخوانية شرسة بعد 30 سنة من الحكم العسكري المتحالف مع "الجماعة"، تسببت خلالها سياسات النظام الجائرة في إشعال الحروب الأهلية وتقسيم البلاد، وكما يقول الكاتب "حنا صالح"، لم يقدم النظام للناس "إلا القمع والجوع". (الشرق الأوسط 4/ 7/ 2019).
وقد حاول الجنرال البشير دكتاتور السودان المستحيل كي يفلت من مصيره المحتوم، لكنه فشل في كل محاولاته.وحقق السودانيون إنجازا ثانياً لا يقل أهمية، إذ قاوموا بوعي وإدراك اللجوء إلى العنف والقوة، وحرصوا على سلمية الثورة ومدنيتها وروحها العصرية، وظلت الجماهير واقعية في مطالبها ملتصقة بشعاراتها العادلة البسيطة. ثالث الإنجازات أنها أدركت أن من الخطأ استنفاد صبر الجماهير وإطالة أمد ولادة النظام الجديد، وتعاملت قيادة الحركة وممثلوها بتواضع وجدية مع الوسطاء من الداخل والخارج.ولا ينبغي لهذه النجاحات أن تخدع هؤلاء الممثلين بأنهم خرجوا من الأمواج ومحاولات الالتفاف، فلقد قيل مرارا إن مثل هذه الأنظمة التسلطية تدمر الحاضر وتخرب المستقبل معا، مما يجعل النهوض بعد ثلاثين عاما من الجمود والبقاء خارج الحياة والتاريخ أمرا بالغ الصعوبة.تحدث الإعلامي العربي البارز سمير عطالله عن مشاكل وصعوبات اقتلاع المستبدين في العالم العربي فقال: "من أجل إقناع معمر القذافي بالذهاب بعد 42 عاما من الحكم، كان لابد من إحراق البلاد، ومن أجل إقناع الرئيس بوتفليقة، المقعد منذ ستة أعوام، بعد طلب ولاية خامسة، كان لابد من وضع الجزائر على حافة الانفجار، ومن أجل إقناع البشير بالاكتفاء بثلاثين عاما، كان لابد من اعتقاله". (الشرق الأوسط 25/ 5/ 2019).الليبيون كذلك حاولوا استرداد بلادهم وتاريخهم بعد أن سرقهما "معمر القذافي"، على امتداد أربعة عقود، ففي فبراير الماضي جاء في الأخبار أن برلمان ليبيا ألغى حكما بالإعدام صدر سابقا بحق الملك الراحل "إدريس السنوسي"، وقضى بإعادة الجنسية له ولأسرته، وحفظ حقهم في التعويض المادي والمعنوي. وقال المتحدث باسم مجلس النواب الذي يتخذ من مدينة "طبرق" في أقصى الشرق الليبي مقراً له في بيان إن القرار جاء عقب مناقشة المجلس مذكرة مقدمة لرد الاعتبار للملك الراحل وأسرته.وأضاف مراسل الصحيفة من القاهرة خالد محمود: "يقيم ما تبقى من أحفاد السنوسي في المهجر، ويعد الأمير محمد الرضا السنوسي (57 عاما) المقيم في المملكة المتحدة، وهو ابن ولي عهد ليبيا حسن الرضا السنوسي، أبرز الشخصيات الملكية التي تطالب بعودة نظام الملكية الدستورية في ليبيا". وأضاف: "تربع السنوسي على عرش ليبيا ما بين (1946-1969) حتى إسقاط حكمه من قبل العقيد الراحل معمر القذافي، في الأول من سبتمبر (أيلول) عام 1969، الذي أصدر عام 1977 حكما بالإعدام بحق السنوسي، حيث قضى حياته في مصر حتى وفاته عام 1983، ليتم دفنه بناء على وصيته في المدينة المنورة بالسعودية". (الشرق الأوسط، 28/ 2/ 2019).ليبيا لا تزال تعاني، تغلي وتتمزق أطرافها ويتناوب على حكم أقاليمها مختلف القادة، ويتسلل إلى مناطقها أمراء الإرهاب وكبار السفاحين وشيوخ ما يسمى "السلفية الجهادية".أحد الصحافيين المتابعين للشأن الليبي كتب عن حالها قبل عامين، وما أشبه اليوم بالبارحة، ما يلي: "في شوارع مدن ليبية عدة، يمكن أن تلتقي بعناصر تحمل السلاح، وتقاتل من أجل الوجود، كما يحدث بين وقت وآخر بين ميليشيات طرابلس. أما في بنغازي، التي تحررت من الجماعات المتطرفة، فأصبح هناك شبان يحلمون بغد أفضل، ويؤمنون بقدرة الجيش على أن يتوحد في مؤسسة عسكرية واحدة، وأن يفرض الجنرال حفتر الأمن في البلاد، وحين تسأل عما إذا كان الوضع الأمني المنفلت، خصوصا في غرب البلاد، يسمح بإجراء انتخابات، تجد إجابات حالمة في ضواحي بنغازي، من تلك التي يطلقها السياسيون في الروايات القديمة، مثل القول إن "الشعب هو مصدر السلطات"، و"الشعب قادر على النهوض من جديد وتحديد مصيره". ويقول مصباح وهو يحرك ذراعيه كأنه يرسم على لوحة كبيرة على صفحة الهواء: "الشعب الليبي قادر على أن يفرض نفسه، الشعب صاحب السيادة ومصدر السلطات". (الشرق الأوسط 21/ 10/ 2017).لحسن الحظ، كلا البلدين- ليبيا والسودان- من أغنى الدول بالإمكانات، رغم الحروب وإرث الاستبداد، ليبيا بالنفط والسياحة والمساحة وربما تصدير الطاقة الشمسية، والسودان بسهولها الفسيحة ومياهها المتدفقة الغزيرة.ولعل على كلا الشعبين الخارجين من هذه المحن، أن يتذكرا دائما، أن إسقاط النظام المستبد شيء، وإقامة النظام العادل البديل شيء آخر!
مقالات
أبو ثلاثين سنة... وأبو أربعين!
11-07-2019