على أوروبا أن تبني منصتها الاجتماعية الإخبارية الخاصة
حوّل الرئيس جورج بوش الابن خطأ عبارة "شبكة الإنترنت" إلى صيغ الجمع خلال حملته عام 2004، ولكن بعد مرور خمسة عشر عاماً، يبدو أن هنالك في الواقع ثلاث شبكات إنترنت: واحدة أميركية وأخرى صينية وثالثة أوروبية مترددة.شبكة الإنترنت الصينية معزولة فعلياً عن سائر العالم منذ مدة، ومع موجة التنظيمات الجديدة التي أقرتها الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بشأن حماية البيانات، والخصوصية، وخطاب الكراهية، وحقوق الملكية الفكرية، تتحول شبكة الإنترنت الأوروبية أيضاً إلى نطاق قانوني منفصل عن الشبكة الأميركية. رغم ذلك، لا تزال تهيمن عليها المنصات الأميركية الفائقة (غوغل، أمازون، فيسبوك، آبل، ميكروسوفت)، التي تفرض عموماً مصالحها الخاصة على القيم العامة الأوروبية، مثل التنوع، والتضامن، والحرية، لذلك آن الأوان لتتبنى أوروبا استراتيجية جديدة.
تضبط المنصات الفائقة الرغبات، وجهات النظر، والأغاني، والرحلات، والوظائف، والأخبار، لكن المقلق حقاً بالنسبة إلى كيان ديمقراطي كيفية تنظيمها النطاق العام وتحكّمها في النقاش العام من خلال طريقة توزيعها المنتجات الثقافية، وخصوصاً الناتج الصحافي، فلم يسبق لوسائل الإعلام أن فقدت السيطرة إلى هذا الحد على توزيع محتواها.تقرر الخوارزميات التي تقف وراء هذه المنصات اليوم مَن يشاهد وماذا ومتى، تضفي هذه طابعاً شخصياً على الواقع الذي يعيش فيه الناس، مولدةً بالتالي شرنقة مريحة لكل منا بالاستناد إلى مقدار هائل من البيانات جمعته (أو اشترته) عن سلوكنا، وعاداتنا، وأذواقنا، وهكذا عملت هذه المنصات بفاعلية على تقويض مفهوم المجتمع بحد ذاته بتحويلها كل ما هو عام إلى خاص (الاقتصاد) وشخصي (السياسة). نتيجة لذلك، يتجه البث العام، والصحة العامة، والتعليم العام، والأفكار العامة، ووسائل النقل العام، والمكتبات العامة، وحتى المساحات العامة (بسبب سماعات الأذنين) نحو الانقراض في أجزاء كثيرة من العالم. حاولت أوروبا المقاومة من خلال مجموعة واسعة من التدابير التنظيمية، لكن إخفاق المنصات في الالتزام بها بالكامل، فضلاً عن الطريقة التي تحولت بها شركة هواوي إلى ضحية تصعيد التنافس الأميركي-الصيني، يجب أن يوقظ أوروبا: تحتاج أوروبا الآن إلى منصاتها الخاصة التي ترتكز على قيمها هي. قد يعتبر كثيرون ممن يؤيدون هذا الطرح أن هذا هدف غير واقعي على الأرجح، لكنني أملك استراتيجية قد تنجح أود أن أقترحها: على شركات البث العام في المملكة المتحدة وأوروبا، مثل "بي بي سي"، القناة الرابعة، التلفزيونات الفرنسية، ARD، وDW-TV في ألمانيا، أن توحد قواها ومواردها لتبني منصات وسائل تواصل اجتماعي عامة تقتصر على الحد الأدنى الضروري لتنقل من خلالها ناتجها الصحافي، ويجب أن تدير هذه المنصات وتمولها معاً، وينبغي أن تتوافر هذه المنصات في أوروبا والمملكة المتحدة فقط، بغض النظر عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.ما سيميّز هذه المنصة عن فيسبوك، مثلاً، واقع أن خوارزمياتها لن تكون شفافة فحسب، بل ستُصمَّم أيضاً لتتناسب مع القيم التي تتبناها غالبية الدول الأوروبية، مثل التنوع، والتضامن، والخصوصية، مع تمتعها في الوقت عينه بالمرونة الكافية لتمنح الأولوية للغات، والثقافات، ومنتجات وسائل الإعلام المحلية.بالإضافة إلى ذلك، من الممكن توسيع هذه المنصة لتشمل مؤسسات إعلامية أخرى وتقدم خدمات إضافية. على سبيل المثال، تستطيع الصحف الوطنية الانضمام إلى المنصة لتوزع ناتجها وتشارك في ضبطه، كذلك قد تعد المنصة البنية التقنية اللازمة (مثل خدمات سحب أو شبكة لإيصال المحتوى) لتشجيع المقاولين الأوروبيين وتسهيل عملهم بغية تأمين خدمات تنافس المنصات الفائقة الأميركية. كما ذكرت الباحثة المتخصصة في شؤون وسائل الإعلام جوزي فان دايك ومَن شاركوها في تأليف كتابها الأخير "مجتمع المنصة"، بما أن أوروبا عالقة بين نظامَي منصات واحد صيني وآخر أميركي، "ينبغي لها أن تطور استراتيجية شاملة تأخذ في الاعتبار مجتمعات المنصات، سواء من ناحية السوق الاقتصادية أو من الناحية السياسية-العقائدية".لا شك أن هذا الاقتراح كان سيبدو مثالياً أكثر من أن يُحقَّق قبل بضع سنوات، لكن مبادرات مثل BritBox (منافسة بي بي سي وITV شبكة نتفليكس) تثبت إمكان إنجازه، ومن المؤكد أن أوروبا تستحق استراتيجية منصة ونظام منصة خاصين بها من دون أي تردد.* « حسين درخشان»