بلغ التوتر بين الولايات المتحدة وإيران أعلى مستوياته، ويتخذ كلا الطرفين خطوات عالية المخاطر بهدف إرغام الآخر على تبديل سلوكه، تود واشنطن وطهران على حد سواء تفادي الحرب، ولكن في بيئة تصاعدية مماثلة، يُعتبر خطر ارتكاب أخطاء في الحسابات كبيراً. وبغض النظر عن نتيجة هذا الصراع، ستحتفظ طهران على الأرجح بنفوذها الإقليمي على طول الطرف الشمالي لمنطقة الشرق الأوسط نتيجة ضغف العالم العربي المزمن.يُعتبر ظهور "داعش" عاقبة كبيرة غير متعمدة لحرب الولايات المتحدة في العراق، لكن التداعيات الأكثر أهمية تشمل تحوّل سعي الولايات المتحدة في عام 2003 إلى تغيير النظام في بغداد إلى وسيلة عززت جهود إيران للبروز كقوة إقليمية، ومذاك علقت الولايات المتحدة في دوامة سببية تمنح فيها جهودها لمحاربة الجهاد العابر للحدود إيران هامش مناورة أكبر والعكس صحيح. وتعود سياسة حافة الهاوية التي تشهدها العلاقات الأميركية-الإيرانية في الوقت الراهن إلى واقع أن الولايات المتحدة لا تستطيع السماح لإيران بزيادة المكاسب التي تجنيها من إضعاف تنظيم "داعش".
نرى جلياً أن إيران عاقدة العزم على تقويض الهندسة الأمنية الإقليمية القائمة، إذ تعتمد الاستراتيجية الإيرانية عموماً على العمل بالوكالة من خلال الميليشيات الشيعة (العربية بمعظمها)، ولا يقتصر عملها هذا على جوارها الغربي الممتد على طول البحر الأبيض المتوسط، بل يطول أيضاً شبه الجزيرة العربية، ونتيجة لذلك، نشهد اليوم حملة هجمات تزداد عدائية ينفذها المتمردون الحوثيون في اليمن ضد أراضي المملكة العربية السعودية. أما الجزء الآخر من استراتيجية الملالي، الذي قلما تُسلَّط الأضواء عليه، فيستند إلى المفاوضات ويُعتبر أكثر دقة وأهمية بكثير. إذا لم تطرأ أي تطورات جديدة، تُعتبر المفاوضات خطوة إيجابية وبديلاً أكيداً للحرب، لكنها لن تكون سهلة في هذه الحالة، بما أن طهران تسعى من خلال المفاوضات إلى تعزيز المكاسب التي حققتها بواسطة الميليشيات التابعة لها (والتي تضم قوتها الإقليمية مجتمعةً نحو مئة ألف مقاتل). تتحول هذه الميليشيات بمرور الوقت (كما رأينا في لبنان والعراق) إلى حركات سياسية تتغلغل في عالم السياسة الرئيس، وبما أن إيران راعيتها، تصبح هذه الأخيرة، بإضفائها طابعاً مسلحاً على عملية الحوار، مساهماً بارزاً في هذه الدول، وهكذا تنجح إيران في تعزيز حضورها الجيوسياسي في العالم العربي.علاوة على ذلك، يبدو المنطق الجغرافي-الطائفي في هذا الصراع الإقليمي قوياً جداً، حتى إن تنظيمَي داعش والقاعدة وغيرهما من اللاعبين السلفيين المجاهدين يقودون اليوم المقاومة السنية ضد سياسة إيران التوسعية. نتيجة لذلك، تحاول الولايات المتحدة باستمرار الموازنة بين الأصوليات السنية والشيعية، علماً أن هذا يعود خصوصاً إلى تفكك المساحة العربية السنية المعتدلة الرئيسة. لذلك تُضطر واشنطن إلى مواصلة التأرجح بين التصدي لجمهورية إيران الإسلامية واللاعبين المجاهدين من غير الدول إلى أن يتمكن اللاعبون العرب السنة الأساسيون من العمل بفاعلية كجدار صد منيع في وجه خطر "ذاتهم" الطائفية و"الآخر"، لكن هذا التأرجح المستمر ينطوي على الأمد الطويل على خطر تقوية إيران والمجاهدين على حد سواء وتقليص بالتالي مساحة اللاعبين من الدول العربية السنية.كما أن الجهاد العابر للحدود يزدهر جراء الحرب، كذلك تجني إيران فوائد جمة نتيجة الصراع في المنطقة. صحيح أن إيران وداعش عدوان لدودان، إلا أنهما يحتاجان إلى بعضهما كي يتمكن كل منهما من الترويج لقضيته الخاصة. يبقى وجه الاختلاف الرئيس بينهما أن داعش (بما أنه القوة الإسلامية السنية غير الدولية الأكثر تطرفاً) حفّز رد فعل ضخماً اتخذ شكل ائتلاف عالمي منعه من ترسيخ نفسه كنظام. في المقابل، تشكل جمهورية إيران الإسلامية كلاعب دولةً، وهذه مكانة تستطيع استغلالها لتحقق هدفها: التحول إلى قوة إقليمية معترف بها دولياً.إذاً، لن تحقق حرب كبيرة أخرى في المنطقة أي هدف غير تعزيز مصالح هذين اللاعبين على حساب مجموعة الدول العربية الضعيفة جداً أساساً، لذلك من الضروري أن تتواصل الجهود للتصدي لإيران من دون اندلاع أعمال عدائية وأن تكون أي تسوية تعقدها إدارة ترامب تكتيكية. يحب أن يكون الهدف على الأمد القصير منع إيران من كسب دور دائم في شؤون العالم العربي، ولكن على الأمد الطويل، لا يمكن التصدي لتعديات إيران من دون إصلاح الشرخ في نسيج العالم العربي السنية.* «كمران بخاري»
مقالات
هل تستطيع الولايات المتحدة احتواء أضرار الصراع مع طهران؟
17-07-2019