فضاء الياسمين المعتق *
بدأت تستيقظ تدريجياً... الشوارع فارغة من العربات والمارة، ما هي إلا لحظات وتبدأ حركة متثائبة، بعض دراجات هنا، وسيارات التاكسي الصفراء تعبر الجسر أمام ذاك المبنى الطويل في مدينة مستلقية في حضن النهر مع طلعة الصباح الأولى... يمشي ذاك من بعيد وكأنه دمية آدمي، حاملاً كيس زاده ومتجهاً إلى عمله اليومي الشاق، وفي نهاية اليوم يقبض الفتات كما هو حال ملايين البشر على امتداد الأرض المستديرة... وآخر يجري سريعاً ليلحق بالمواصلات العامة قبل أن يتأخر عن موعد بدء عمله، ووجوه لنساء ورجال في الأوتوبيسات، كلٌّ سارح في "مواله"، ولكلٍّ قصة وحكاية حتماً، خصوصاً أن سنوات عجافاً قد مرت، ولا تزال تحفر في يومياتهم وجعاً يبقى مخزناً كما الحب والفرح بين الجلد والعظم... يستدعي الكثيرون الذاكرة، فلا زاد ولا زواد، لهم أو لهن سواها، يغرفون منها لحظات من الفرح وكثيراً من الأمل، حينها كانت الياسمينة في كل مكان تطاردك رائحتها الزكية في الأزقة وبين جدران البيوت التي كلها حكايات مخزنة. لا الصباحات ولا المساءات هنا تشبه أي مدينة، فمازال السكان يقضون أوقاتاً في الحدائق العامة، والعشاق كذلك يلتصقون تحت شجرة أو تمثال وكأنهم يختبئون من الأنظار المتطفلة... يلعب الأطفال على مقربة منهم كرة القدم دون صياح شديد، كما هو حال نفس اللعبة في الأماكن البعيدة... مازال الأطفال يعرفون معنى أن تلعب في الهواء الطلق بين وتحت ظلال الأشجار الوارفة، مازالوا يعيشون اللعب ذاك الذي أصبح بعيداً عن دنيا الأطفال في العالم عندما صادقوا الهاتف أو الـ"آي باد" واكتفوا بهما كأصدقاء ووسيلة للعب والترفيه وقضاء الوقت، وحتى للتعارف مع الجنس الآخر... فالصبية لم يعودوا يتوقفون في الحدائق والأماكن العامة يقتنصون نظرة لفتاة عابرة، بل هم يقومون بـ"تشات" عبر شبكة التواصل... لا تعليق ظريفاً كـ"أحلى وحدة أم جزمة حمراء"، فتنظر الفتيات ليجدن أنه لا واحدة منهن تلبس حذاء أحمر، فيلتفتن جميعاً نحو الصبية ويضحك الجميع أو يبتسمون، لم تكن إلا مداعبات بريئة لا تحرش ولا لمس ولا تعليقات فاضحة تمثل إهانة للمرأة مهما كانت محتشمة، ففي دراسات ببعض الدول العربية أن المنقبات والمحجبات أكثر عرضة للتحرش من الفتيات غير المحجبات.
تبطئ الحركة تدريجياً والشمس تتوسط السماء، وتعود إلى الصخب وقت انصراف الموظفين والطلاب، حيث يعلو "صريخ" العربات، ولكن هذه مدينة لا تعرف "التزمير" العنيف، كما كثير من مدننا، بل هي معتدلة بعض الشيء، ولا تزال تملك بعض القواعد، التي هي الأخرى كالأخلاق والنزاهة، بدأت تتلاشى، كحبات الرمل بين أصابع اليد. عند المساء تأتي نسمة لتبرد حرارة يوم طويل قائظ، ويتحول مشهد المارة إلى أجواء جديدة من الغنج والفخامة في اللبس، حيث السهرات لم تنقطع رغم كل ما مرت به... ومن لا يملك تكلفة وجبة في مطعم متواضع أو مرتفع التكلفة، فليس له إلا نفس تلك الحدائق التي هي الأخرى تلبس حلية جديدة بأنوارها الخافتة، وكأنها تدعوهم إلى هنا، إلى مخابئ العاشقين والمحبين... هي سترهم وغطاهم في ليل طويل تغلفه بعض ألحان شاعرية تأتي من ذاك المقهى المتربص بالمارة على ناصيتين من الشارع، فلا يمكن أن يمر المرء دون أن تغريه أكواب الشاي والعصير ولعبة الطاولة وكثير من "الشيش" التي لم تعد هناك قهوة أو مطعم خاليين منها. هنا لا إشارات لمنع التدخين ولا تعليمات وإجراءات من أجل الجالسين ولا حتى أي إشارة تعكر صفو القادمين الباحثين عن مساحات للقاء وطرح الأسئلة. هذه المدينة احتفظت بكثير من تراثها وعادات أهلها، وأهمها أن المقاهي هي ملتقى للشعراء والحالمين والباحثين عن أخبار هنا وهناك أو تحاليل للوضع العام في المنطقة، وتنبأت بالقادم، وعند التعب من الحديث في الشأن العام يعودون إلى لعبة الطاولة أو التأمل بين الدخان المحلق من تلك الأرجيلة ومتابعة المارة، وهي فن جميل يسميه البعض فضولاً، وهو في الحقيقة شكل من أشكال الاطلاع والقراءة التي تنقلك إلى مساحات ومدن وأحاسيس لم تعرفها ولم تكن لتعرفها لولا الولع بالقراءة والكتب... هذه المدينة لا تزال تضج مكتباتها بالزوار مثلها مثل "السوبرماركت"، بل ربما أكثر ولا تزال الكتب المطبوعة لها روادها ومحبيها ولايزال الشاي مخدراً، وليس أكياساً مما هو بعض شاي وكثير من المواد الأخرى دون طعم أو رائحة... هذه مدينة برائحة الياسمين. * ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية