اختلاف المصلين حكمة عليا
إن مجتمع الرأي الواحد والمذهب الواحد والدين الواحد مجتمع محبط كئيب وبائس، صحيح أن الإسلام المُنَزل واحد، لكنه يتعدد ويتشكل بحسب البيئات والثقافات والأزمان، والطريق الواقعي
لـ «التقارب المذهبي» ليس إنكار الخلاف أو استهجانه أو اتهام الآخر بالضلالة والانحراف، بل الاعتراف به، وحسن إدارته.
لـ «التقارب المذهبي» ليس إنكار الخلاف أو استهجانه أو اتهام الآخر بالضلالة والانحراف، بل الاعتراف به، وحسن إدارته.
قبل 1100 عام، ظهر كتاب، يعد من أقدم وأهم ما وصل إلينا في مجال الملل والنحل الإسلامية (الفرق الإسلامية) ألفه إمام الأشعرية أبوالحسن الأشعري (324 -260 هـ) عنوانه "مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين" جمع فيه المذاهب والفرق الإسلامية في زمنه، وتحدث عن الفروق والاختلافات العقدية والفقهية بينها، ورغم أن الكتاب لا يحيط بكل الفرق ولا كل الاختلافات، ويفتقد الدقة في اتخاذ معيار منضبط لما يفرق مذهباً عن آخر، والتوثيق في نسبة أقوال إلى مذاهب (الأباضية مثلاً) فإن ما يميز الكتاب ويغتفر هناته، نبل الهدف وسمو المقصد، فقد جاء في زمن كانت الفرق الإسلامية يكفر بعضها بعضاً، تمسكاً بنبوءة مكذوبة منسوبة إلى النبي تزعم افتراق المسلمين (73) فرقة، مصيرها النار إلا فرقة واحدة، تفوز بالجنة (الفرقة الناجية)! جاء هذا الكتاب ليقرب بين المسلمين، ويقول بكلمات خُطت بماء الذهب "اختلف الناس بعد نبيهم على أشياء كثيرة، ضلّل بعضهم بعضاً، وبرئ بعضهم من بعض، فصاروا فرقاً متباينين وأحزاباً متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم"، ثم يضيف بكلمات جامعة: "من صلى إلى قبلتنا، فهو منا، لا نكفره". كان من نعم المولى تعالى على المسلمين، أن رزقهم ديناً لا يقر "كهنوتاً" أو "رهبانية" أو "بابا" أو "وسيطاً" يهيمن على مستقر العقائد، ويفرض وصايته الدينية على عقولهم، بل إن القرآن كله في النعي على الأمم السابقة حين اتخذوا أحبارهم "وسطاء" دينيين، وابتدعوا "رهبانية" ما كتبها تعالى، وذلك تقريراً لهدف عظيم، هو حرية المسلمين في "حق الاختلاف"،
وقد بلغ من تبجيل هذا الدين لحرية البحث والاختلاف، أنه رتب أجراً على الجهد البحثي ولو أنتج رأياً خاطئاً! لقد منَّ المولى تعالى على عباده، أن منحهم نعمة عظمى، لم يمنحها لملائكته الأخيار (حرية الاختلاف)، لذلك خلقهم مختلفين، لحكمة عليا، وعلله بقوله "ولذلك خلقهم"، أي لأجل الاختلاف المحفز على التطور المثري للحياة وعمران الأرض واكتشاف قوانين الكون وتقدم العلم وثورة المعرفة، لهذا كان الإنسان أكثر شيء جدلاً.إن إسلاماً بلا مذاهب، لا وجود له، ولا سبيل إليه، لأنه مضاد لطبائع الحياة والبشر والدين، القائمة على الصيرورة والتغير، كما لا يمكن تصور دين صالح لاحتياجات المجتمعات المتجددة إلا أن يتقبل الاختلاف المذهبي والديني، بل إن مجتمعاً أحادياً في الفكر أو المذهب أو الدين، هو مجتمع خامل خال من حافز التقدم، طبقاً للمفكر العراقي رشيد الخيون، في كتابه "لا إسلام بلا مذاهب". إن مجتمع الرأي الواحد والمذهب الواحد والدين الواحد مجتمع محبط كئيب وبائس، صحيح أن الإسلام المنزل واحد، لكنه يتعدد ويتشكل بحسب البيئات والثقافات والأزمان، والطريق الواقعي لـ "التقارب المذهبي" ليس إنكار الخلاف أو استهجانه أو اتهام الآخر بالضلالة والانحراف، بل الاعتراف به، وحسن إدارته، وتوظيفه فيما يثري المجتمعات ويقرب المختلفين، وفق قاعدتين ذهبيتين: الأولى: الخلاف لا يفسد للود قضية.الأخرى: نتعاون فيما اتفقنا، ويعذر بَعضُنَا بعضاً فيما اختلفنا. إن جنة عرضها السماوات والأرض، تسعنا جميعا، ورحمته جل وعلا وسعت كل شيء، والخلق في النهاية، عيال الله، أي فقراء إليه، إما بعدله، أو بتفضله وتكرمه. أخيراً: علينا التيقن أن الإسلام أكبر وأرحب وأعظم من أن يختزل في مذهب واحد، أو تفسير واحد، أو اجتهاد واحد، علينا ألا نضيق بالاختلاف المذهبي والديني، على منابرنا الدينية ومناهجنا التعليمية والتربوية غرس مبدأ "شرعية الاختلاف" في نفوس وعقول ناشئتنا، تحصيناً لهم من فكر التعصب والتطرف والإقصاء، وحماية لهم ولمجتمعاتهم من الصراعات الطائفية والدينية وكل أشكال القمع والتكفير والتخوين. * كاتب قطري
علينا التيقن أن الإسلام أكبر وأرحب وأعظم من أن يُختَزل في مذهب واحد أو تفسير واحد أو اجتهاد واحد
الإسلام يبجل حرية البحث والاختلاف وبلغ من تبجيله لها أنه رتب أجراً على الجهد البحثي وإن أنتج رأياً خاطئاً!
الإسلام يبجل حرية البحث والاختلاف وبلغ من تبجيله لها أنه رتب أجراً على الجهد البحثي وإن أنتج رأياً خاطئاً!