بعد مرور خمسين عاما منذ خطا رواد الفضاء أولى خطواتهم على سطح القمر، تحولت حروب الفضاء من خيال تجود به علينا هوليود إلى تهديد حقيقي وشيك، إذ لم تَقنَع القوى الكبرى بامتلاك أسلحة نووية تكفي لمحو كل أشكال الحياة على كوكب الأرض عِدة مرات، فإذا بها تسارع الآن إلى عسكرة الفضاء، ونظرا لاعتماد العالم المتزايد على الأصول السابحة في الفضاء، فمن الواضح أن المخاطر هائلة.

كما كانت الحال مع سباق الفضاء خلال سنوات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، يحمل سباق الفضاء العالمي الجديد بُعدا رمزيا، وبالنظر إلى الدور الذي لعبه الهبوط على سطح القمر في ترسيخ هيمنة الولايات المتحدة في الفضاء، يُعَد القمر نقطة انطلاق طبيعية للعديد من البلدان التي تتدافع الآن لتأمين موطئ قدم لها هناك.

Ad

في يناير أصبحت الصين أول دولة تُـرسي مركبة فضائية روبوتية غير مأهولة على الجانب البعيد من القمر، والهند ــ التي أصبحت في عام 2014 أول دولة آسيوية تصل إلى المريخ، بعد ثلاث سنوات من محاولة الصين الفاشلة لمغادرة مدار الأرض ــ من المقرر أن تطلق مهمة غير مأهولة إلى القطب الجنوبي غير الموثق من القمر في الثاني والعشرين من يوليو، بعد أسبوع من إلغاء الإطلاق الأول في الدقيقة الأخيرة بسبب تسرب وقود الهيليوم، كما ترتب اليابان ودول أصغر حجما مثل كوريا الجنوبية وإسرائيل لإطلاق مهام قمرية.

لكن الولايات المتحدة لن تتخلى عن مكانتها بسهولة، فقد تعهدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بـ"إعادة رواد الفضاء الأميركيين إلى القمر في غضون السنوات الخمس المقبلة"، وعلى حد تعبير نائب الرئيس الأميركي مايك بنس: "تماما كما كانت الولايات المتحدة أول دولة تصل إل القمر في القرن العشرين"، فإنها ستكون أول دولة "تعيد رواد الفضاء إلى القمر في القرن الحادي والعشرين".

الواقع أن سباق الفضاء المتصاعد هذا لا يتعلق بحقوق التفاخر والمباهاة فحسب؛ فبعض الدول تحرز أيضا تقدما سريعا في تطوير قدراتها العسكرية الفضائية، بعض هذه القدرات دفاعية، مثل الأنظمة القادرة على إسقاط الصواريخ البالستية القادمة، لكن بعضها الآخر هجومية، مثل تكنولوجيات الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية التي يمكنها استهداف الأصول الفضائية.

أصبح امتلاك القدرة على الانتفاع من مثل هذه الأنظمة، وحرمان الخصوم من الاستفادة منها، عنصرا أساسيا في الاستراتيجيات العسكرية، وهذا هو السبب الذي دفع ترامب إلى إصدار أوامره لوزارة الدفاع الأميركية بإنشاء سلاح الفضاء، وهو فرع عسكري مستقل من المفترض أن يتولى المهام والعمليات المرتبطة بالفضاء.

تأمل الولايات المتحدة أن يتمكن هذا السلاح من حماية "هامش هيمنتها" في الفضاء. قبل استقالة باتريك م. شاناهان من منصبه كوزير للدفاع بالإنابة الشهر الفائت، قال إن هذا الهامش "يتقلص بسرعة"، حيث أصبحت قوى جديدة بارعة في عسكرة تكنولوجيات الفضاء التجارية، بما في ذلك تلك التي جرى تطويرها لأول مرة كجزء من مشاريع مدنية تركز على المهابة، وأبرز هذه القوى روسيا والصين.

فالصين، التي أنشأت سلاح الفضاء المستقل في عام 2016، تسعى إلى تحقيق الريادة العالمية في الفضاء، وقد أظهرت كل من الصين وروسيا قدرات فضائية هجومية في هيئة أقمار صناعية تجريبية يمكنها معاونة العمليات العسكرية. ويشير تقرير صادر عن سلاح القوات الجوية الأميركية إلى أن الغرض من وضع قدرات عسكرية هجومية في مدارات حول الأرض هو الإيقاع بأصول الولايات المتحدة الفضائية رهينة في حال نشوب صراع.

وهذا يسلط الضوء على نقاط الضعف الهائلة التي تعيب هذه الأصول، وليس فقط تلك التي تنتمي إلى الولايات المتحدة، إذ تضم البنية الأساسية الفضائية الحالية ما لا يقل عن 1880 قمرا صناعيا تملكها أو تديرها 45 دولة. وتدعم هذه الأصول نطاقا عريضا من الأنشطة، بما في ذلك الاتصالات، والملاحة، والتصديق على المعاملات المالية، وتعزيز الاتصالية، والاستشعار عن بُعد، والتنبؤ بالطقس. ومن منظور أمني، تعمل هذه الأصول على تسهيل الاستخبارات، والمراقبة، والإنذار المبكر، والتحقق من الحد من التسلح، وتوجيه الصواريخ، على سبيل المثال.

تُعَد الهند لاعبا رئيسيا آخر في سباق الفضاء المتصاعد. ففي مارس، استخدمت الهند نظاما لاعتراض الصواريخ البالستية لتدمير أحد أقمارها الصناعية التي تدور حول الأرض بسرعة تقرب من 30 ألف كيلومتر في الساعة، الأمر الذي يجعلها رابع قوة ــ بعد الولايات المتحدة، وروسيا، والصين ــ تُسقِط أداة من الفضاء. وظف الاختبار بعضا من ذات التكنولوجيات التي استخدمتها الولايات المتحدة لإسقاط صاروخ بالستي عابر للقارات في اختبار أجرى قبل ذلك ببضعة أيام فقط.

على عكس استعراض الصين في عام 2007 لقدرات أسلحتها المضادة للأقمار الصناعية ــ والذي خلف أكثر من 3000 قطعة من الحطام في المدار ــ لم يواجه الاختبار الهندي أي انتقاد دولي، وهو ما يرجع في جزء كبير منه إلى أن المقصود من هذا الاختبار كان إضعاف ميزة الصين فيما يتصل بقدرات حرب الفضاء. الواقع أن رئيس القيادة الاستراتيجية الأميركية الجنرال جون هيتن، دافع عن اختبار الهند قائلا: "إن الهنود قلقون بشأن التهديدات التي قد تتعرض لها أمتهم من الفضاء، وعلى هذا فإنهم يشعرون أنهم لابد أن يكتسبوا القدرة على الدفاع عن أنفسهم في الفضاء".

يشبه هذا إلى حد كبير المبرر المستخدم لبناء الترسانات النووية الهائلة اليوم، ونحن نعرف إلى أين يقودنا هذا الطريق، وكما هو الحال مع قضية الردع النووي، تواصل الدول تطوير قدراتها الفضائية الهجومية، إلى أن يصبح "الدمار المؤكد المتبادل" أفضل أمل لتوفير الحماية لهذه الدول وأصولها.

قبل أن يحدث ذلك، يجب تعزيز القواعد والقوانين الدولية، إذ تحظر معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967 أسلحة الدمار الشامل الفضائية، لكنها لا تحظر أنماطاً أخرى من الأسلحة أو اختبار الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية، والأمر يستلزم إبرام معاهدة جديدة لتجريم كل استخدام للقوة في الفضاء، مع تقديم وصف دقيق للعواقب المترتبة على الانتهاكات وتطبيقها على نحو جدير بالثقة. على نحو مماثل، من الأهمية بمكان وضع قواعد للسلوك المسؤول في الفضاء، لردع اختبار الأسلحة المضادة للأقمار الصناعية أو غير ذلك من التصرفات التي تهدد سلامة الأصول الفضائية.

من السهل التورط في المنافسة الاستراتيجية المتصاعدة والصراع على الأرض، ولا شك أن حماية حرية الملاحة البحرية في أماكن مثل الخليج الفارسي وبحر الصين الجنوبي (حيث تواصل الصين تغيير الوضع الإقليمي القائم من جانب واحد) أمر بالغ الأهمية، لكن ضمان حرية الملاحة عبر النجوم أصبح على ذات القدر من الأهمية للسلم والأمن العالميين.

* براهما تشيلاني

* أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز بحوث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".

"بروجيكت سنديكيت، 2019" بالاتفاق مع "الجريدة"