لم يخدم تدخل وزارة الخارجية الأميركية أخيراً في الانتخابات الأوروبية مصالح أحد مطلقاً، وقد كُتب الكثير في السنتين الماضيتين عن انحسار الديمقراطية حول العالم، وبداية ما دُعي بـ«الركود الديمقراطي»، ويشكّل التدخل الروسي، التوسع الصيني، الجمود الأوروبي، وابتعاد الولايات المتحدة عن نظام العالم الليبرالي الذي ساهمت في تأسيسه عوامل ذُكرت لتوضيح هذا الميل.

ولكن ثمة عامل أقل وضوحاً لكنه لا يقل خطورة يساهم في زعزعة الديمقراطية وتراجعها، عامل نغفل عنه غالباً. هذا العامل هو الحيرة، وخصوصاً الحيرة حيال دبلوماسية إدارة ترامب، لنتأمل في حالة ألبانيا، حوّل تدخل وزارة الخارجية الأميركية أخيراً في انتخابات محلية مشكلة سياسية صغيرة إلى وضع متفجّر لا نرى له أي مخرج واضح.

Ad

تعاني ألبانيا اليوم أزمة دستورية بدأت في شهر فبراير، وكشفت سلسلة من التسريبات نُشرت في صحيفة Bild الألمانية عملية شراء أصوات وتلاعب منظّمة اتبعتها الحكومة الاشتراكية الحاكمة بقيادة رئيس الوزراء إيدي راما خلال الانتخابات البرلمانية عام 2017، فعمد الائتلاف المعارض، الذي يضم الحزب الديمقراطية وحركة التكامل الاشتراكية، إلى الاستقالة من مقاعده في البرلمان احتجاجاً على فساد حكومة راما المستشري وتشكيكاً في شرعية الانتخابات البرلمانية، كذلك توعّد هذا الائتلاف بمقاطعة العملية السياسية لحين تنحي راما وتشكيل الاشتراكيين حكومة جديدة.

أمام التظاهرات المتفاقمة والضغط الشعبي المتنامي، ألغى الرئيس الألباني إيلير ميتا الانتخابات المحلية في مختلف أنحاء الأمة التي كان من المقرر عقدها في 30 يونيو، مرجئاً إياهاً إلى شهر أكتوبر. في هذه الأثناء، دعا الحكومة والمعارضة على حد سواء إلى التفاوض بغية التوصل إلى حل للأزمة. لكن الحكومة بقيادة راما مضت قدماً في الانتخابات وحدها رغم المقاطعة، منظّمةً ما سخر منه ألبانيون كثر واصفين إياه بـ»انتخابات من دون خيارات» على الطراز الشيوعي. فقد شكّل الاشتراكيون المرشحين الوحيدين في 35 من أصل 61 مقاطعة مع مواجهتهم منافسة من بعض الأحزاب اليسارية واليمينية الوسطية في المقاطعات المتبقية.

علاوة على ذلك، بدأ الاشتراكيون إجراءات لسحب الثقة من الرئيس والإطاحة به بذريعة أنه تصرّف بشكل مخالف للدستور عندما ألغى عملية الاقتراع (لم تستطع المحكمة الدستورية الفصل في هذه المسألة لأن قضاتها يخضعون لتحقيق بعدما اتُّهموا بالفساد). وإذا تأملنا هذه الخطوات معاً، نلاحظ أنها تهدد بتحويل البلد إلى دولة ذات حزب واحد تخضع فيها كل مؤسسات السلطة (كل العمد والمجالس المحلية، والبرلمان، ومجلس الوزراء، والمدعي العام، والرئيس، والمحاكم) لسيطرة حزب واحد، مع أن الممثلين المنتخبين لأكثر من 45% من البلد، التي تمثل المعارضة، يتظاهرون في الشوارع مطالبين بضمان الحقوق.

لكن ماثيو بالمر، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية والأوراسية، تدخل في هذا المرحلة المتوترة أساساً قبل الانتخابات بطريقة زادت الطين بلة. ثمة وجهان لتدخل بالمر: تحميل المعارضة مسؤولية أي أعمال عنف ودعم انتخابات الثلاثين من يونيو الأحادية الطرف التي شارك فيها حزب واحد. صحيح أننا نتفهم الرسالة الأولى، إلا أن الثانية تخالف المبادئ الديمقراطية كافةً.

أعلن بالمر على نحو محير أنه من الضروري أولاً إجراء الانتخابات (حتى لو أدى ذلك إلى ولادة دولة حزب واحد لا ضوابط فيها ولا توازنات) لتختار الحكومة بعد ذلك محكمة دستورية جديدة تقرر عندئذٍ مدى مصداقية عملية الاقتراع (في هذه المرحلة، لن تقبل المعارضة مطلقاً بشرعية المحكمة الدستورية ما لم تؤدِّ دوراً في اختيارها). كذلك أشار ضمناً إلى أن الولايات المتحدة ستقطع علاقاتها مع أي أحزاب تلجأ إلى العنف من دون أن يقرّ بأحقية شكوى المعارضة من أنها هُمّشت ظُلماً في العملية الانتخابية. لكن إحدى الركائز الأساسية للحوكمة تقضي بضرورة تمتُّع المؤسسات بالشرعية كي تعمل بالشكل الصحيح (سواء في الانتخابات أو المحاكم)، إلا أن بالمر دعا الألبانيين إلى تجاهل هذا المبدأ من دون أن يعي عواقب هذه الخطوة الخطيرة.

حتى انتخابات الثلاثين من يونيو، كانت ألبانيا ديمقراطية من دون مؤسسات فاعلة تدافع عن نزاهة انتخاباتها. ولكن بدءاً من الأول من يوليو، لم يعد هذا البلد، بفضل المسار الخطير الذي سلكه ائتلاف راما وتدخل بالمر غير المدروس، ديمقراطيا أو جمهوريا.

تجاهل الناخبون الألبان في نهاية المطاف حملة الحكومة الاشتراكية ومحاولة بالمر التدخل على حد سواء، فقاطعوا الانتخابات بصمت، وجاءت النتيجة تدني الإقبال على صناديق الاقتراع إلى مستوى تاريخي: نحو 20% في هذه الانتخابات، لذلك استخلصت مهمة المراقبة الدولية التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في تحليلها اللاذع للانتخابات أنها عُقدت «من دون أخذ مصالح الناخبين في الاعتبار».

يثير كل هذا أسئلة خطيرة عن وزارة الخارجية الأميركية التي ما زالت تدعو الألبانيين إلى قبول شرعية هذه الانتخابات، فعلى أي أساس تنكر الولايات المتحدة مطالبة المعارضة، التي لا تستطيع الوثوق بعمليتها الانتخابية؟ ولمَ لا نتبع مسار التسوية الذي قدّمه رئيس ألبانيا المنتخب شرعياً؟

بالإضافة إلى ذلك، تطرح هذه المسألة أسئلة أشمل: مَن يدير الدفة في وزارة الخارجية الأميركية بينما يركّز وزير الخارجية مايك بومبيو على المناطق الساخنة ومبادرات السياسة الخارجية؟ ومَن يوجّه البيروقراطيين الأميركيين الذين يؤدون دوراً مهماً في الحفاظ على استقرار دول ومناطق هشة حول العالم وأي مبادئ يتبع؟ يبدو جلياً أن الغياب غير المسبوق للتفويضات الرفيعة الشأن في وزارة الخارجية الأميركية بدأ ينعكس سلباً على عملها.

● أجيم نيشو