ذكريات الجوافة 1
ذكريات الجوافة سيرة لحياة الفنان التشكيلي الكبير جورج البهجوري، تتعلق ببداياته من الطفولة حتى وصوله إلى الشهرة، كتاب في غاية الأهمية من وجهة نظري، ليس فقط لأنه يبين رؤية ومفهوم فنان مبدع مثل جورج البهجوري، العلامة الفنية بتاريخ الفن المصري والعربي، بل أيضا يبين ويكشف عن كواليس مهمة لعلاقات كتاب وفناني الصحافة المصرية بقمة زمن تألقها وصناعة نجومها، والذين باتوا أعلاما لأقطاب الفن التشكيلي وكبار الكتاب نجوم ذاك الزمن الجميل.وقبل الدخول في تفاصيل السيرة الرائعة أحب أن أنوه إلى أنني من الذين تربت أذواقهم الفنية، ونمت رقة ورهافة مشاعرهم، وكبرت ثقافتهم على رسومات فناني مجلة صباح الخير، وهي مدرسة بحد ذاتها، وتربت أجيال عديدة على يد كتابها العظام ورساميها ومنهم جورج البهجوري.وأنا أقرأ في كتابه عن زملائه وحياتهم معا، شعرت طوال الوقت أنني واحدة منهم، وأنتمي لهم وأنهم أصدقائي منذ يفاعتي، فهم أساتذتي الذين بفضل تربيتهم ونور إشعاعهم نمت مشاعري وأحاسيسي الفنية، فلهم كل التقدير والشكر.
أعود إلى كتاب "ذكريات الجوافة"، وسبب هذا المسمى يرجع إلى ارتباط شجرة الجوافة، ذات اللب الوردي الشهي، بذاكرة جورج البهجوري في طفولته وصباه وشبابه، لوجودها بسكن عائلته، وارتباطها بتفاصيل حياة العائلة اليومية، فتحت ظلها مجلس الأسرة، وبين فروعها المتشابكة وجد الفنان الصغير متكأ عالمه السحري. ذكريات الجوافة ليست عنوانا فقط لكتاب، بل شجرة تغلغت بسيرة حياة فنية عائلية كاملة.توقفت كثيرا للشكل الكتابي لجورج البهجوري، فغالبا الرسامون لا يجيدون التعبير إلا بالصورة وليس بالكتابة، ولا حتى التحدث والشرح لأعمالهم الفنية، التعبير بالصورة هو الطاغي، لذا جاءت كتابته مختلفة عن كتابة الكتاب، وهو ما أعجبني بهذا الكتاب، لا يقدم ولا يطرح نفسه ككاتب، ولكن كرسام يتحدث بالصورة، فهو يتنقل بعفوية وببساطة متناهية بين ذاكرة الطفولة والصبا والشباب والكهولة، ومن قريته إلى القاهرة وإلى باريس يتلخبط الزمان "رايح جاي"، تبعا للصور التي تتقافز بمخيلة الرسام، فتتعدد الشخصيات الحقيقية، تتأخر وتتقدم تبعا لورود الصور، يكتب السيرة وكأنه يتكلم مع نفسه، ويسترجع ذكرياته كما تخطر على باله بلخبطة أو بانتظام، حركة الحياة من حوله هي ملعبه، وما يحركه وما يلفت نظره، مثل عمل "الجرسونات" بالمطاعم، وعمال تبليط الشوارع، ولاعبي الكرة بالملاعب، حركة رقصة التنورة، تعبيرات وجوه الناس بكل مكان.سيرة تغوص بروح الفنان الرسام، وكيف يرى العالم من منظوره، وماذا يهزه ويحرك وجدانه، وبما أنني مارست الرسم ببداياتي كمشروع رسامة لم يكتمل، فمازلت أرى العالم وأترجمه بنفس نظرتهم التي لا تملك منهجية منتظمة، وترى العالم مربعات ومكعبات ومتقاطعات، وهذا مما انعكس على الكتابة بطريقة ملتبسة لأنها لا تسير على نهج منظم مفهوم، ما يجعلها مختلفة عن كتابات الآخرين.كتابته لها طعم آخر جديد، مختلف، "متلخبط" بالسرد تتدفق ذكرياته بفوضوية صدق المشاعر، كتابة تشبه تماما طريقته بالرسم، لقطة من هنا تُلصق على لقطة من هناك، مثلما يفعل تماما برسوماته، رأس من هنا وحركة قدم من هناك، وتنورة طائرة أو صينية على كف، مما أنتج كتابة في غاية المتعة الفنية للأجيال التي عاصرت وأدركت قيمة هؤلاء الكبار اللامعين الأيقونات الفنية والأدبية، هذا مقتطف يبين رؤية الرسام للعالم: "الأخضر يعانق الأزرق والأصفر يهرب من الأحمر فيصبح خجولا بلون البنفسج، والشمس فاترة تسري بفروع شجرة شابة تشب بصعوبة وسط أحراش الحقل، والغابة تريد أن ترى نورها فيصبح أصفر فاترا بلون الليمون قبل أن يسقيه ماء المطر وسيول شتاء البورجوني، وتتشعلق أطراف أوراق العنب فيصبح العنقود طفلا بلون النبيذ الوردي القادم بعد العصر والتخزين"."أم كلثوم تغني مع رعشة الوردة بفرعها، فتتفتح أوراقها المغلقة وتنتعش مع الرائحة الصغيرة المارقة وسط الطبيعة الملونة، أنا كائن عاشق لها أسجل وأخطط وألون كل ذلك على ورقة بيضاء. أنا رسام مصري وهي صوت مصري، رسمت لها أكثر من 200 رسم، تأمل معي كل لوحة لأني لم أرسم ملامح أم كلثوم، ولكني رسمت مصر في فترة صعبة لتعود إلى مكانتها، في كل رجفة وهي تغني تهتز وتنبض بالوطنية وحب الوطن. انها لوحات مصر ولكنها في نهاية الأمر هي أكثر من مئة لوحة لشخصية أم كلثوم وصوتها الذهبي".