هربوا هم... فماذا تبقى لنا؟! *
تأتي الدعوة بخجل شديد من شخص لم ألتقِ به إلا منذ لحظات... يقول بتلعثم ابنتي ستتزوج بعد أيام وسنكون سعداء بتشريفك، وكان الرد الطبيعي «وأنا أيضاً». تلعثم مرة أخرى، وقال: ولكن الزواج في الكنيسة، فلم يجد أي علامات للتعجب أو تغييراً في ردة الفعل، بل على العكس فطقوس الزواج في الكنائس العريقة أكثر خشوعاً وتعيد التذكير ببعض ما كان يقال لنا عن مؤسسة الزواج التي تعرضت للكثير من الخراب والخسائر الفادحة حتى أصبح الطلاق هو الحاكم الأول والأخير في كثير من العلاقات الزوجية.تخوُّف الأب المسيحي في دعوته وتردده ما هما إلا تعبير عما وصلنا إليه في دولنا من خطاب معادٍ للمسيحيين، ثم لكل الأقليات، ولكن المسيحيين هم الأكثر خوفاً، وكنائسهم تنتهك وتحرق بل تطالها التفجيرات في فترات الأعياد الأكثر قدسية، لا حرمة لدين هو أحد الأديان السماوية، ولا لبشر كانوا إخوة وجيراناً وزملاء عمل وأصدقاء لم نكن نسأل عن دينهم سابقاً ولم نكن نعرفه. هرب المسيحيون من دولنا، رحلوا خوفاً من القتل أو التنكيل أو الاضطهاد على اختلاف أنواعه، أو حتى من ترداد كلمة «نصراني» بمعنى يوحي بالسلبية... هربوا إلى بقاع الأرض، وهم من كانوا جزءاً من ملحها وكثيراً من ثقافتها وحضارتها التي ميزتها عن الكثير من بقاع الكون، هربوا ومعهم كثير من تاريخنا وحتى لغتنا، ألم تكن الكنيسة هي من حافظت على اللغة العربية؟ رحلوا وتركوا خلفهم تراثاً نفتقده، تركونا للون الواحد، رمادي هو، كما كثير من تفاصيل حيواتنا؛ فالجلوس بين عالمين متناقضين هو من شيم أهل العرب في هذه المرحلة الحرجة. بعضنا تباهى بأنه أكثر تقبلاً وتسامحاً، في الكثير من ذلك بعض التودد والتقرب من الغرب الذي فصل الدولة عن الدين منذ قرون، أو حتى محاولة لصبغة هذا البلد أو ذاك بصبغة الحضارية في التعامل، غير أن هناك آخرين لم يستطيعوا حتى رفع الصوت عندما نكل «داعش» وأخواته بالمسيحيين، ورفعوا الشعارات المقيتة، فجلسوا هم يتفرجون، بل تجرأ آخرون إلى القول بأن كلامهم هو كلام القرآن الذي لا يذكرون منه إلا الوعيد والتهديد والتخويف، إما أن تفعلوا هذا وإلا فلكم جهنم وعذاب المصير!
طورد المسيحيون حتى تحولت نسبتهم من %20 من سكان المنطقة قبل عقد إلى %2 حسب بعض التقارير، وتحولوا إلى مجرد أقليات لا حق لهم في ممارسة طقوسهم أحياناً أو حتى في بناء دور عبادتهم، أو تصبح الأخرى هدفاً للقنابل والتعبير عن كراهيةٍ لطالما تعششت في عقول البعض من رواد الجوامع بأئمتها المتطرفين... عندما تُرِكت المساجد في عهدة الجهلة وأنصاف المتعلمين والمفسرين للدين حسب رؤيتهم الضيقة تحول كثير من الشباب إلى التطرف وإلى الحقد على الآخر، وكأنه العدو اللدود... تقلص المسيحيون في العراق، ثم انتقل ذلك إلى كثير من دول الجوار كلما أصبح خطاب الكراهية هو السائد... وأصبح المسيحي يخبئ صليبه حتى لا يعاقب على ذلك لأن بعضهم نُشِّئ في بيئة كانت تكرر على مسامعه أن حاملي الصليب هم كفار! هناك روايات عن قصص حب محرمة تجاه المسيحيين، عن أطفال يرفضون دخول الكنائس أو ينامون تحت الصليب... عن أسئلة تبدو ساذجة ولكنها مغمسة بالعنصرية وكراهية الآخر يطلقها بعض المسلمين عند لقاءاتهم بمسيحيين... عن زمن أصبحت فيه التهنئة بعيد الفصح كفراً أو «تقاليد غير محببة»... عن وظائف تحرم على المسيحيين ويفضل فيها المسلمون، وكأن المسيحيين مواطنون منزوعو الحب والولاء للوطن، فالمسيحي متهم حتى تثبت براءته! المحزن أن هذا لم يكن وضع بلداننا قبل عقود بسيطة، بل على العكس كان المسيحيون جزءاً من نسيج مجتمعاتنا، وكثير من الأعمال الدرامية القديمة جداً كانت ترسم شخصيات متنوعة في الحي الشعبي أو المدينة. وكان من النادر أن يعرف الصديق ديانة صديقه، بل من العيب أن تسأل عن الديانة أو الطائفة السؤال الذي أصبح عادياً جداً بل ممجوجاً عندما تتعرض لأسئلة من هذا القبيل، لاسيما أن الكثير من مسيحيي الشرق قد حملوا أسماء عربية عريقة. عدت إلى الأب بعد أن سرحت في حالنا المحزن، ورددت بأنه لشرف لي أن أحضر زفاف ابنتك في الكنيسة، ابتسم ابتسامة عريضة عبرت عن كثير من الامتنان، ولكنها غمست ببعض من الحسرة.* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية