بينما تواجه جورجيا أزمتها الأشد مع روسيا منذ حرب عام 2008 بين البلدين، يبقى حليف تبليسي الأقرب، الولايات المتحدة، صامتاً على نحو غريب.حظر الكرملين السفر إلى جورجيا، وطلب من السياح عدم زيارة هذا البلد، وهدد بالمزيد من العقوبات الاقتصادية، وتكثر في وسائل الإعلام الروسية القصص عن رهاب الروس في جورجيا، بعضها مبالغ فيه وبعضها الآخر عارٍ تماماً من الصحة، كذلك حذَّر الدبلوماسيون الروس بشكل قاتم، وإن كان مبهماً، من «الحرب».
لم تقدّم الولايات المتحدة أي رد ملحوظ علانيةً، وأصدرت سفارتها في تبليسي بياناً موجزاً عقب انتشار التظاهرات المنددة بزيارة مسؤول روسي البرلمان الجورجي والقمع العنيف الذي مارسته الحكومة، داعيةً إلى فتح تحقيق في استخدام القوة ضد المتظاهرين وإلى «حوار بين اللاعبين السياسيين كافةً يعزز الديمقراطية الجورجية»، أما المسؤولون البارزون في واشنطن، فلم يتدخلوا... وهكذا جاء رد الفعل الأميركي أكثر فتوراً من مساعي الدعم التي اعتادها الجورجيون.لكن واشنطن قدمت لجورجيا طوال سنوات دعماً أقوى مما نالته من أوروبا، مطالبةً بمنحها عضوية حلف شمال الأطلسي، رغم ما واجهته من مقاومة من دول أوروبا الغربية، ومنظمةً برامج تدريب وتجهيز عسكرية مكثّفة. نجحت عضو الحركة الوطنية الموحدة المعارضة في البرلمان سالومي ساماداشفيلي في عكس الجو السائد بين كثيرين في تبليسي، فقد عنونت مقالها التحليلي في عدد 12 يوليو من صحيفة واشنطن بوست: «الجورجيون يتصدون لفلاديمير بوتين... أين الغرب؟».ذكر كورنيلي كاكاتشيا، مدير المعهد الجورجي للسياسة، وهو مؤسسة فكرية بارزة: «دُلل الجورجيون بعض الشيء، فقد حظوا بالكثير من التدخل الأميركي في كل المسائل المرتبطة بروسيا والأمن»، لذلك «يشعرون بنوع من العزلة»، حسبما أخبر «أوراسيانت» أخيراً.بلغ دعم واشنطن جورجيا ذروته في العقد الماضي خلال عهد جورج بوش الابن، اعتُبر الرئيس آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي بطلاً في واشنطن ومثالاً يجسد «أجندة الحرية» التي اتبعتها إدارة بوش، وأرسى هذان القائدان أسس روابط عميقة بُنيت خلال العقد التالي، ولكن بعد حرب عام 2008 ومحاولة الولايات المتحدة «إعادة ضبط» علاقتها مع روسيا، تبنت إدارة أوباما مقاربة أكثر حذراً في خطاباتها، إلا أنها واصلت عموماً تطبيق سياسات مَن سبقوها.خلال عهد ترامب، تبدو الصورة أكثر تشويشاً، فقد استمرت العلاقة العسكرية قوية، ففي عام 2017، وافقت الولايات المتحدة أخيراً على طلب جورجيا القديم تزويدها بأسلحة أميركية مضادة للدبابات. لكن ترامب حاول أيضاً بناء علاقة مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتردد في انتقاد روسيا علانيةً، وهو ما اعتبره الجورجيون خطراً وجودياً يهدد أمنهم.وأوضح كاكاتشيا أنه «نظراً إلى الوضع المبهم في العاصمة واشنطن، لا تحتل جورجيا مرتبة عالية في قائمة الأولويات، ولا شك في أن هذا يُقلق الجورجيين بعض الشيء».ذكر أيضاً مايكل كاربنتر، مسؤول سابق في إدارة أوباما، في مقابلة معه في 14 يوليو على قناة الجزيرة أن «الولايات المتحدة تدعم جورجيا، ولكن عند تحديد سلم الأولويات، تراجعت جورجيا قليلاً». فقد تمكنت أولويات أخرى في مجال السياسة الخارجية، مثل أوكرانيا، وفنزويلا، كوريا الشمالية، وسورية من «سلب جورجيا الصدارة التي احتلتها قبل عشر سنوات على الأرجح.علاوة على ذلك، نرى في واشنطن إدراكاً متنامياً أن مواقف الولايات المتحدة الأكثر حزماً ضد روسيا في الماضي لم تكن غير مجدية فحسب، بل أدت غالباً إلى نتائج عكسية. وقد قارن سترونسكي الدعم الأميركي القوي لتظاهرات الميدان في أوكرانيا، هذا الدعم الذي شمل بعض «التصريحات المؤسفة جداً» التي صدرت عن مسؤولين أميركيين وساعدت موسكو في تصوير هذه الأحداث على أنها خطر جيو-سياسي، بردود الفعل المدروسة تجاه تظاهرات السنة الماضية في أرمينيا، وهذه السنة في كازاخستان.وشدد سترونسكي على أن «روسيا أخذت خطوة إلى الوراء، وبدأت على الأقل تتحدث عن الحد من التصعيد، أعتقد أن ترك جورجيا وروسيا تحلان هذه المسألة مع مواصلة الضغط الصامت على جورجيا على الجبهة الديمقراطية المحلية بالغ الأهمية، فلا يؤدي إسراع الولايات المتحدة إلى التدخل في هذه المسائل إلى نتائج جيدة دوماً».زار كاربنتر، وهو مستشار لنائب الرئيس الأميركي السابق والمرشح الرئاسي الحالي جو بايدن، جورجيا قبل أيام من نشوب الأزمة الراهنة وانتقد محاولات الحكومة الحالية تطبيع العلاقات مع روسيا.ساعد تدخل كاربنتر روسيا في تصوير الأحداث في جورجيا على أنها ناجمة عن تحريض أميركي، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 25 يونيو: «نخشى في هذه الحالة أن زملاءنا الأميركيين يبذلون أيضاً قصارى جهدهم لمنع روسيا وجورجيا من تطبيع علاقاتهما». وأشار لافروف إلى زيارة كاربنتر بالتحديد، قائلاً إن الأميركي «لم يعمل بدأب على الهامش فحسب، بل تحدث أيضاً علانية حاضاً جورجيا على عدم الانجراف في بنائها روابط مع روسيا».دعمت الولايات المتحدة عموماً محاولات الحكومة الجورجية، عقب رحيل ساكاشفيلي في عام 2013، لتطبيع العلاقات مع موسكو، وفق سترونسكي. وأضاف: «صارت الولايات المتحدة أكثر دقة ووعياً. أدركت أن هذين البلدين لن يبدلا واقعهما الجغرافي وأن عليها التوصل إلى طريقة للتعاطي مع روسيا، لذلك لا يُعتبر الحد من التصعيد استراتيجية سيئة، وهذا ما يحاول الحزب الحاكم فعله».يختم كاكاتشيا: «أُدرك أن ثمة ضوابط في التعامل مع واشنطن، لأن روسيا تنظر إليها بارتياب، فهي تحمّل الولايات المتحدة مسؤولية الأحداث الأخيرة. وإذا شهدنا أي تصريح أو دبلوماسية مكوكية من الولايات المتحدة، فمن المؤكد أن هذه الريبة ستتضاعف».* «لوب لوغ»
مقالات
واشنطن تلتزم الصمت حيال الأزمة الروسية - الجورجية
29-07-2019