قلص صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد العالمي مؤخراً، فمن توقعات لنمو بنسبة 3.6% قبل بداية 2019 خفضها إلى 3.3% قبل عدة أشهر ثم إلى 3.2% في تقريره الأخير وسط تحذيره من احتمال تخفيضها مجددًا بل وتخفيض النمو المتوقع للعام المقبل.
في أي قطاع تعمل؟
ولا تخفى الأسباب وراء ذلك كثيراً، فمن الحرب التجارية المستعرة بين الولايات المتحدة والصين، وتهديدات واشنطن بمواجهات أخرى مع فرنسا خاصة وأوروبا عامة بل والمكسيك وغواتيمالا، وتباطؤ النمو الألماني والياباني، وأزمة «بريكسيت»، وتعثر الكثير من الاقتصادات الناشئة، تتضح ملامح الأزمة، غير أن التساؤل الأهم يبقى حول تأثير هذا التراجع الفعلي على كل شخص على حدة.إذا كان القطاع الذي تعمل به مرتبطاً بالخدمات فإن مثل هذا التراجع العالمي سيكون في حدوده الدنيا، ففي ظل مساهمة القطاع بحوالي 63% من إجمالي الناتج العالمي، فإنه يتوقع زيادة النسبة خلال الأعوام الخمسة المقبلة لتصل إلى 66% وفقاً لـ «ستاتيكس تايمز».ويرجع هذا إلى أن نمو الاقتصاد العالمي المنتظر يعود أول ما يعود إلى النمو في القطاعات الخدمية، ولا سيما الصحة وتكنولوجيا إنترنت الأشياء وتطبيقات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التطبيقات التكنولوجية التي من المتوقع نمو كثير منها بنسب تفوق 30% سنوياً في بعض الحالات.والأزمة الكبيرة ترتبط بهؤلاء العاملين في القطاعات الصناعية، إذ يتوقع تقرير لـ «ديلويت» تقلص حصة الصناعة من الناتج العالمي بنسبة 3% في غضون السنوات الخمس المقبلة مع استمرار نمو حصة الخدمات والثبات النسبي للزراعة.والأزمة ستعتري بالذات الصناعات الثقيلة، ولا سيما صناعات المعادن، مثل الصلب، إذ إن أحد أهم أسباب تراجع تقديرات النمو ترتبط بتراجع الصناعات الثقيلة بسبب الأزمات التي تشهدها ولا سيما في ألمانيا وكندا، فضلاً عن تراجع النمو في الدول الناشئة التي كانت مصدر الطلب الرئيس على الصناعات الثقيلة بشكل عام.الصناعة والزراعة
ومع استمرار تراجع اقتصادات ناشئة رئيسية مثل تركيا والأرجنتين ونيجيريا، والثبات النسبي للبرازيل والكثير من دول شرق أوروبا، فإن صناعة المعادن ستبقي على إنتاجها في 2019 عند نفس مستويات 2018، بعد التوقعات السابقة بنموها بنسبة 2% وفقاً لتقرير «ديلويت».أما الزراعة فتحذر «فاو» من تراجع لافت في معدلات نمو الطلب والعرض من الأغذية خلال العام الحالي يصل إلى 0.5%، وعلى الرغم من ضآلة النسبة، إلا أن أهميتها تكمن في تراجع كمية الغذاء المنتج مع الزيادة المضطردة والتي لا تتوقف في عدد البشر حيث تعطي انطباعاً عن تراجع أكبر في النشاط.وتشير المنظمة إلى أن خطورة هذا التراجع أنه يأتي مؤيدًا لتوجه واضح منذ سبعينيات القرن الماضي التي استمر الإنتاج الغذائي في الزيادة فيها بنسبة متوسطة 2.5% قبل أن يتراجع إلى 1.9% في الثمانينات، ثم 1% في التسعينيات، قبل أن تصبح نسبة النمو رقماً عشرياً فحسب، لتنقلب لأول مرة في التاريخ المعاصر سالبة.أما على مستوى التجارة، فتشير إحصاءات منظمة التجارة العالمية إلى تقلص التجارة العالمية للأشهر الستة الأولى بنسبة 0.5%، والأخطر منها تراجع كافة الأنشطة المرتبطة بها من حركة سفن وشحن وشاحنات واستخدام لموانئ وحاويات.ويشير تقرير المركز الأمريكي للدراسات السياسية والإدارية إلى أنه إذا تأكدت تلك الحروب التجارية خلال العام الحالي فإن انقلابات اقتصادية عنيفة قد تحدث، فقد تستفيد دول جنوب شرق آسيا مثلاً بزيادة صادراتها التكنولوجية لأمريكا، بينما ستستفيد دول أمريكا اللاتينية من عقوبات صينية على واشنطن.وفي كل الأحوال يبقى المستهلك في الدول التي تفرض رسوماً جمركية المتضرر الأكبر وفقًا للمركز، الذي يشير إلى زيادة أسعار السلع الصينية التي فرضت عليها واشنطن رسوماً جمركية بنسبة 10-17% في الولايات المتحدة في ظل صعوبة توفير البديل للسلع الصينية حتى الآن.الشرق الأوسط.. أول المتضررين
هذا على نطاق القطاعات، أما فيما يتعلق بالمناطق، فما يهم بصورة أكبر هو تعديل الصندوق لتوقعات النمو للشرق الأوسط من 2.5% قبل بداية العام (أكتوبر 2018) إلى 1.3% في أبريل الماضي، قبل تعديلها مجدداً ليتحدث عن نمو في حدود 1.1% في يوليو الماضي، لتصبح المنطقة التي شهدت التعديل الأكبر في نسب النمو بسبب التوترات السياسية.وباستثناء اليابان التي رفع الصندوق توقعات النمو فيها، بسبب تدينها إلى أدنى مستوياتها منذ أعوام، فإنه رجح تراجع النمو في بقية العالم، ففي إنجلترا سيبلغ 1.2% بدلاً من 1.3%، وحذرت دراسة لـ «كامبريدج» من نمو بريطاني سالب إذا حدث ونفذت لندن تهديدات بعض سياسييها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي دون اتفاق، وكذلك قلت توقعات النمو.متى عليك القلق؟
وباستعراض ما سبق فإنه إذا كنت مرتبطاً بالصناعات التكنولوجية، ولا سيما تلك الأحدث فليس عليك القلق كثيراً من تراجع النمو، ولكنه سيكون عليك إعادة صياغة حساباتك إذا كان عملك مرتبطاً بالأنشطة الصناعية أو تلك الزراعية بكل تأكيد.وإذا ما كانت تجارتك مرتبطة بمنتج محلي فقد تكون في مأمن - نسبياً (فكل الأنشطة تؤثر ببعضها)- أما إذا كانت مرتبطة بالتجارة العالمية فعليك تبني حسابات أدق، فربما تستفيد من «الركود النسبي» في صناعة الشحن وربما تراجع الأسعار وربما تتضرر إذا تقلصت المنافسة في هذا المجال لاحقًا.وفي كل الأحوال فإن تراجع نمو الاقتصاد العالمي يفرض على الجميع الانتباه، سواء أكانوا مستهلكين أو موظفين أو أصحاب أعمال، فحالة الانكماش تفرض على المتعاملين فيما يتعلق الاقتصاد جميعاً درجة أعلى من الحرص في ظل غلبة التهديدات على الفرص.