كانت اليونان منذ زمن طويل الدولة الأقل مودة مع الولايات المتحدة، غير أنه في العام الماضي أظهرت دراسة أجراها مركز أبحاث «بيو» أن نسبة هائلة بلغت حوالي 59 في المئة من سكان اليونان ينظرون بصورة ايجابية ومؤيدة الى الولايات المتحدة. ولا يرجع ذلك الى تأثير وجود الرئيس دونالد ترامب في البيت الأبيض، غير أنه مع وجود الرئيس السابق باراك أوباما في سدة الحكم في سنة 2014 كانت نسبة من يعتقدون أن القيادة الأميركية جيدة وصالحة بين المواطنين اليونانيين لا تتجاوز الثلث فيما كان 52 في المئة يفضلون روسيا.ولكن اليونان هي أيضاً واحدة من أفضل الدول الصديقة للولايات المتحدة في مجموعة بلدان الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن ولأسباب متعددة. وقد أشاد السفير الأميركي في اليونان جيفري بيات في الآونة الأخيرة بتلك الدولة الأوروبية واصفاً اياها بـ «دعامة الاستقرار في منطقة صعبة»، وحسب تعبيره فإن التعاون بين الولايات المتحدة واليونان الذي يشمل في الوقت الراهن طائفة من المواد تختلف من استيراد الغاز الطبيعي المسال الى عقود الدفاع ينطلق الآن «بسرعة قصوى».
ويتعلق ذلك الزخم في جزء منه بنتيجة الانتخابات العامة في اليونان في بداية الشهر الماضي والتي تمكن فيها حزب يمين الوسط الديمقراطي الجديد بزعامة كيرياكوس ميتسوتاكيس وهو تكنوقراطي وخبير مالي سابق تعلم في جامعتي هارفارد وستانفورد، تمكن بسهولة من الحاق الهزيمة بحزب جناح اليسار الحاكم الشعبي سيريزا الذي يعتبر من أنصار سياسة الزعيم الفنزويلي الراحل هيغو شافيز، والذي هدد في مطلع سنة 2015 بتخريب الاتحاد الأوروبي عن طريق معارضة خطة الانقاذ والدعوة الى خروج اليونان من الاتحاد فيما أطلق عليه يومها اسم «غريكزست»، والابتعاد عن منطقة اليورو. ويتوقع كثيرون في وسائل الاعلام الغربية أن يسعى ميتسوتاكيس في وقت قريب الى تعميق علاقاته مع دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو) اضافة الى الولايات المتحدة.
جذور اختلاف عميقة
ولكن على الرغم من ذلك فإن ابتعاد أثينا عن الولايات المتحدة ينطوي على جذور أعمق من مجرد حدوث تغير في الحكومة في اليونان، وذلك حصيلة تحول جيوسياسي كما أن أليكسيس تسيبراس وهو زعيم حزب سيريزا يستحق درجة عادلة من المصداقية والثقة. وخلال العقد الماضي شهدت اليونان غريمتها الرئيسية المجاورة تركيا وهي تزداد قوة وبعداً عن شركائها في الغرب، وقد أضعف فشل أنقرة في الانضمام الى الاتحاد الأوروبي على الرغم من المحاولات المتكررة لتحقيق ذلك الهدف، تقاربها مع اليونان والذي انطلق بوتيرة عالية في عهد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الاصلاحي والمؤيد لأوروبا.وفي الوقت الراهن عادت النزاعات البحرية بين أنقرة وأثينا والتي سممت العلاقات الثنائية طوال أكثر من قرن، وهي تعج بمشاعر الانتقام والحقد.الخلافات الثنائية وأبعادها المحتملة
تعتبر المعارك الجوية بين الطائرات التركية واليونانية من حقائق الحياة اليومية وتدعي تركيا امتلاكها لمكامن الهيدروكربون قبالة ساحل جزيرة قبرص وعلى مقربة من جزيرة كاستوليريزو اليونانية، ورداً على ذلك نجحت اليونان في حث الاتحاد الأوروبي على فرض عقوبات على تركيا بسبب ما تقول أثينا إنه «حفر غير شرعي» في تلك المنطقة.ومن أجل تحقيق توازن ضد تركيا تطلعت اليونان الى الولايات المتحدة، وفي شهر أكتوبر من عام 2017 رحب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتسيبراس في البيت الأبيض وقدم له التهاني على تلبية أثينا للهدف الذي حدده حلف شمال الأطلسي في انفاق 2 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي اليوناني على الدفاع وأعرب عن موافقة الادارة الأميركية على تطوير 84 من الطائرات اليونانية من طراز اف - 16 بقيمة مليار دولار.وقد أعقب عمليات اصلاح طائرات «اف 16» اليونانية التي بدأت في العام الماضي شراء أثينا لأسلحة بحرية وربما تشتري طائرات مروحية من طراز «سيهوك» من الولايات المتحدة. كما أن اليونان بدأت أيضاً باستيراد الغاز الطبيعي المسال وبعد أن وصفه الرئيس الأميركي ترامب بأنه «حصان طروادة» الروسي في أول أيامه في الحكم أصبح تسيبراس شريكاً نموذجياً بالنسبة الى الولايات المتحدة.وعلى الرغم من قيام واشنطن بشكل تقليدي بدور الحكم وصانع السلام بين أثينا وأنقرة كانت لديها أسبابها الاستراتيجية للانحياز نحو اليونان وخاصة بعد تعزيز اردوغان لعلاقاته مع موسكو التي أغاظت الكثيرين في وزارة الكابيتول هيل في واشنطن بقدر يفوق ما شعر به البيت الأبيض، كما أن تسليم روسيا الى تركيا الصواريخ المثيرة للجدل من طراز «اس 400» قد تجعل من شبه المؤكد تعرض تركيا لعقوبات، ولاسيما بعد استبعادها من قائمة الكونسورتيوم المتعلق بتطوير طائرات «اف 35» المقاتلة الأميركية.السياسة الخارجية
وعلى العكس من ذلك عززت أثينا من دعمها لحلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي وقلصت علاقاتها الودية التاريخية مع روسيا، وهي الدولة ذات الأكثرية الأرثوذكسية التي ساعدت أثينا في الماضي في صراعها للتحرر من الحكم العثماني. وفي غضون ذلك، عززت أثينا خلال العقد الماضي وبشكل استثنائي علاقاتها مع اسرائيل وشمل ذلك ميادين النفط والغاز والدفاع والأمن البحري وعمليات الانقاذ، كما أن وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حضر في شهر ديسمبر الماضي اجتماع قمة انعقد في مدينة بئر السبع في فلسطين المحتلة جمع بين رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو وتسيبراس والرئيس القبرصي أناستاسياديس، الذي عقد في أواخر العام الماضي مع تسيبراس اجتماعاً مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في جزيرة كريت اليونانية، وقد ركز ذلك الاجتماع على التعاون في مجال الطاقة كما ألقت الولايات المتحدة بثقلها وراء هذا التحالف في شرق البحر الأبيض المتوسط.ومن المرجح أن تكون سياسة ميتسوتاكيس الخارجية مماثلة بقدر أكبر لسياسة التقارب التي اتبعها تسيبراس مع الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط – اسرائيل ومصر – ولكن مثل سلفه سوف يبقي ميتسوتاكيس أقنية الاتصالات مفتوحة مع تركيا وذلك من أجل مواجهة التوترات والتعامل مع قضايا المصلحة المشتركة مثل وضع اللاجئين والتجارة وبنية الطاقة التحتية.موقف المجتمع اليوناني
وسوف يستمر المجتمع اليوناني في دعم وتقوية العلاقات مع واشنطن، فقد أسهم تاريخ اليونان المضطرب في تلقي سكان ذلك البلد أكثر من درس عن حقائق السياسة وكيفية مواجهة مضاعفاتها بحكمة وتعقل والكثير من التروي.