بعد أن تناولنا المنظومة التشريعية في حصاد هذا الدور، وما قرره رئيس مجلس الأمة الموقر من أن رقابة المحكمة الدستورية هي ضمان أمن وأمان لعدم اعتداء نص تشريعي على حق دستوري، وأن الدعوى الأصلية بعدم دستورية القانون، التي هي من إنجازات مجلس 2012، كفيلة بصون الدستور وحمايته... رأينا أن نستكمل هذا الحصاد، بالاستجوابات التي قُدمت في هذا الدور، والتي بلغ عددها تسعة، اختص سمو رئيس مجلس الوزراء بثلثها، رغم أن سموه لا يتولى أي وزارة بنص الدستور.
الاستجواب حق دستوريالاستجواب باعتباره دستورياً لكل نائب، بل هو أرقي أدوات الرقابة البرلمانية، هو اتهام للوزير، يقابله حق دستوري لهذا الوزير في محاكمة سياسية منصفة وعادلة، نظمت إجراءاتها المادة (100) من الدستور، في إطار من الحقوق التي قررها الدستور في الباب الثالث.والذى يستوقفني في هذا العدد من الاستجوابات التي قدمت خلال دور انعقاد واحد هو الإسراف في استخدام حق الاستجواب وانطلاقه باعتباره حقاً فردياً مطلقاً دون أية قيود أو ضوابط، الأمر الذى يفرغ هذه الوسيلة الإجرائية الدستورية من مضمونها ويحرف الرقابة البرلمانية عن موضعها، لتصبح معول هدم لاستقرار الحكم لا أداة لتوجيهه، وسلاحاً ينفرط معه التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بدلاً من أن يكون هذا التعاون أساساً يقوم عليه نظام الحكم كما أراده الدستور في المادة (50).الخطأ أساس المسؤوليةكما استوقفني في الأغلب الأعم من الاستجوابات المقدمة للوزراء، وربما منذ بدء الحياة البرلمانية، أنها لا تنسب إلى الوزير خطأ في الإشراف على شؤون وزارته، أو في رسم اتجاهات الوزارة، أو في عدم متابعة تنفيذ هذه الاتجاهات، أو إخفاقه في تنفيذ السياسة العامة للدولة، وهي الاختصاصات المخولة للوزير بموجب المادة (131) من الدستور، أو أنه أهمل أو تقاعس عن إصدار قرار يدخل في اختصاصه طبقاً لأحكام القوانين التي أقرها المجلس، أو أصدره على وجه خاطئ مما ألحق بالمال العام، أو بالمصلحة العامة ضرراً بالغاً، بل إن الأمر يجرى على غير ذلك، حيث تتم محاسبة الوزير ومساءلته سياسياً، عن أخطاء وقعت من موظف أو بعض الموظفين، لا ترقى إلى أن تكون محلاً لمساءلة سياسية.ويبلغ التجاوز في المساءلة السياسية مداه، عندما يكون محل الاستجواب، شبهة مخالفة إحدى الهيئات والمؤسسات العامة لقانون إنشائها أو لقانون من قوانين الدولة، في ممارساتها اليومية لنشاطها أو للخدمات التي تؤديها للمواطنين.فالاستجواب في هذه الحالات يتجاوز نصوص الدستور والقانون، للأمور الثلاثة الآتية:الأمر الأول: هو استقلال الهيئات والمؤسسات العامةوهو الاستقلال الذي تستمده من المادة (133) من الدستور التي تنص على أنه "ينظم القانون المؤسسات العامة، بما يكفل لها الاستقلال في ظل توجيه الدولة ورقابتها"، والدستور بهذا النص قد كفل استقلال المؤسسات العامة وألزم السلطة التشريعية بذلك في إنشائها وتنظيمها، وجعل هذا الاستقلال عاصماً لها من التدخل في أعمالها أو التأثير في مجرياتها، لأن هذا التدخل من شأنه أن يعرقلها أو يعوقها عن أداء مهامها التي لم تنشأ إلا لأدائها، استقلالاً عن الجهاز الحكومي للدولة تحقيقاً للأهداف والغايات التي يستهدفها هذا الاستقلال، ومن بينها ما تستلزمه ممارسة بعض الأنشطة من أنماط عمل تختلف عن أنماط العمل الحكومية، ومن رغبة الدولة في التخفيف من أعباء الحكومة المركزية التي تتحمل أعباء ينوء بها كاهلها.الأمر الثاني: توجيه الدولة ورقابتها ولكن هذا الاستقلال، المقرر بنص الدستور، للمؤسسات والهيئات العامة والذي ألزم به الدستور السلطة التشريعية في إنشائها وتنظيمه لها قد قرنه الدستور بأن يكون تحت مظلة "توجيه الدولة ورقابتها".وقد جاء القانون رقم 116 لسنة 1992 في شأن التنظيم الإداري للدولة وتحديد الاختصاصات والتفويض فيها، محدداً سلطة الوزير الإشرافية عليها فيما نصت عليه مادته الثانية من أنه "للوزير المختص، في سبيل مباشرة اختصاصه في الإشراف على المؤسسات العامة أو الهيئات العامة والإدارات المستقلة التابعة له أو الملحقة به أو بوزارته، إصدار التوجيهات لها لتنفيذ السياسة العامة للدولة وللخطة الإنمائية، ومتابعة سير العمل بها لضمان تحقيقها للأغراض التي أنشئت من أجلها، والتقيد بأحكام القوانين واللوائح وقرارات مجلس الوزراء، بالإضافة إلى الاختصاصات الأخرى التي ينص عليها القانون أو اللوائح".فلا تقوم مسؤولية الوزير، ومساءلته السياسية خارج التوجيه العام الذي يمارسه الوزير- طبقاً لأحكام هذه المادة، إلا إذا كان للوزير اختصاص محدد في قانون المؤسسة أو الهيئة يتمتع في مباشرته بسلطة ذاتية، حتى يمكن مساءلته عن خطأ أو إهمال أو تقصير في أداء مهام منصبه، وهو ما تخلو منه هذه القوانين، كما يبين من الأمر الثالث.الأمر الثالث: القوانين المنظمة للهيئات والمؤسسات العامةوقد كان المشرع حريصاً على تجسيد الاستقلال الذي تستمده هذه المؤسسات والهيئات العامة من المادة (133) من الدستور، في تنظيمه لها، وذلك بإنشاء مجالس إدارات لها، خولها جميع الصلاحيات لتحقيق أغراضها، وعلى الأخص رسم السياسات العامة للمؤسسة والإشراف على تنفيذها، ووضع الخطط والبرامج لتنفيذ هذه السياسات واقتراح مشروعات القوانين والمراسيم المتعلقة بتحقيق أغراضها، وإقرار مشاريع ميزانياتها وحساباتها الختامية، ووضع اللوائح المالية والإدارية والفنية لها. ولذلك يخرج كل ما عهدت به هذه القوانين من صلاحيات إلى مجالس إداراتها، من الأمور التي يختص بها الوزير وهي مناط الاستجواب، بموجب المادة (130) من الدستور، حيث لا يكون للوزير الذي يترأس مجلس إدارتها سوي صوت معدود وأحياناً مرجح.
مقالات
ما قل ودل: حصاد دور الانعقاد الثالث من الاستجواب
04-08-2019