• لمَ استقر بك الحال شاعراً مع قصيدة النثر لتبدع من خلالها... ما الذي تحققه لك ولا يتوافر في الأنماط الكلاسيكية؟

Ad

قصيدة النثر أعطتني قواميس الحرية الكاملة التي أبحثُ عنها في منوال الكتابة الأدبية وبالأخص الشِّعر، حيثُ أجدُ نفسي ذلك اللاعب في الهجوم والدفاع الذي يسيطر على الحدود كافة داخل الملعب الشعري، في حين الأنماط الأخرى من الشعر العمودي والحر (التفعيلة) لم أرَ الحرية أو السيطرة عليهما في النتاج الإبداعي الذي يفتح لي شرفة العالم للكشف عن هوية الكون، ومثلما قال الروائي الفرنسي ألبير كامو: "إنَّ حريتي هذه ليست من النوع الحقيقي"، وهذا يعني أنني لا أستطيع أن أرفع الراية الصفراء للخروج من قصيدة النثر، والدخول إلى الأنماط الشعرية الأخرى، فالشعر لا يتوقف على نمط من الأنماط، بل هو تجربة ذاتية يحققها الشاعر من خلال هويته الكونية لهذا العالم.

• أشاد العديد من النقاد بلغتك التعبيرية وقدرتك على نسج خيال جاذب... كيف تصنع هذا الجمال في قصيدتك؟

يقول نيتشه: "في داخل كل فنان حقيقي طفل يريد أن يلعب"، وهذا معناه أن كل مبدع حقيقي يعرف كيف يغرف من بئر الحياة وأشواكها ويصب صهير عذوبتها في خيال الشعر أو الوصول إلى خبايا وأسرار العالم، فالخيال هو العمود الفقري الذي ترتكز عليه قصيدة النثر لتعطي أكثر جمالاً وحيوية مستمرة في الشكل الهندسي للقصيدة، ولإخراج نتيجة أكثر دقة.

لا يستطيع أي شاعر أن يجعل من الخيال قصيدة متذوقة تحمل أعباء المتلقي، فهناك الكثير من يملك الخيال، لكنه لا يستطيع أن يدخل عمق المتلقي، وهذا يعود إلى فقر وجفاف لغته التي لم يستطيع الإمساك بها، بالتالي تكون هيمنة القصيدة للخيال فقط، وهذا من الأخطاء التي يقع فيها شعراء كُثر، إذ يظن الشاعر أنه وصل إلى غاية الجمال في شكل القصيدة، فالجمال يحتاج إلى أدوات كثيرة من بينها الخيال المشحون؛ لإخراج قصيدة تتوقف عليها ريح الصحراء من كثرة الانجذاب للشكل الأخير الذي يتمم خيال القصيدة.

• أيهما يشغل بالك أكثر في النص الشعري: اللغة أم تقنية الكتابة؟

اللغة تميزت في النص الشعري الذي أكتبه كما أشار النقاد، وهذا أهم ما يميز هوية الشاعر عن الآخر، لكن هندسة الكتابة سلّم طويل للوصول إلى غاية الكمال، وأتذكرُ أنني قرأتُ ذات يوم للشاعر الروسي "رسول حمزاتوف" حينما حاول أن يوضح أصول كتابة الشعر بقوله: "الإنسان الذي يقرِّر كتابة الشعر وهو لا يعرف اللغة، كالمجنون الذي يقفز إلى نهر جارف وهو لا يجيد السباحة"، وهذا يعني أنَّ لكل شاعر "خلطة" خاصة به، فالشعر ليس مجرد ضخ بحر من الكلمات، بل تذوق يفتحه الشاعر المبدع بلغته ومشاعره الجياشة للوقوف كفيلسوف أو حكيم على بوابة العالم.

• صف لي كيف تنامت تجربتك مع الشعر... وفِي أي محطة حط قطار شعرك حتى الآن؟

الشعر التهاب داخل القلب ولا يشعر به إلّا الشاعر الحقيقي الذي يحاول أن يفجّر ما بداخله لينسجه في إطار الشعر، وهذا ما أشعر به دائماً في كتابة القصيدة. بدأت تجربتي مع الشعر منذ عمر الخامسة عشرة، لكنني كنت لا أعرف أين محطة توجهي للكتابة الأدبية وبالأخص الشعر في أنواعه العمودي والحر والنثر، وتقلبت كتاباتي في محاولات الشعر العمودي والحر، لكنني لم أبدع في إخراج ما في داخلي من بركان متوهج وصبه في إطار قوالب الشعر العمودي أو الحر، ثم توجهتُ إلى أستاذي الشاعر فؤاد مطلب الذي استطاع أن يوجهني إلى هوية كتابتي الشعرية وصقلها من خلال المحاضرات المكثفة، ومازلت أغرف من تجاربه العظيمة..

• ما القصيدة التي تلح عليك دائماً لكنك لم تكتبها بعد؟

هذا التساؤل الكبير الذي كنتُ أساله للشاعر فؤاد مطلب، قائلاً: "الأديب أو المبدع دائم التفكير والشغف بفن يقول العالم لا أن يقدمه أو يقلده"، فكثير من الفنانين هدفه أن يكتب الحياة أو الواقع أو ما يشعرُ في داخله، لكنه لا يستطيع فهو يكتب حياة تُشبه الحياة الأخرى، وكلما تتعمق الرؤية الفنية لدى الفنان يكبر معه هذا الأرق، وهو كأنما يغش العالم قائلاً لهم: الحياة تشبه كذا وليس الحياة، أنا أقول الحياة كوميديا سوداء، هناك نسخ على الحياة، وهذا أكبر ما يصيب المبدع فهو لا يستطيع أن يكتب القصيدة التي يشعر بها في داخله، وإنما يقدّم قصيدة أخرى ربما تشبه بعض الأشياء التي كان يفكر فيها، وربما لم تحمل ما كان يفكر به من المشاعر الجياشة، فمن الصعب القبض على الأشياء في القصيدة الواحدة.

• تحرص دائماً على المشاركة في مهرجانات الشعر والأدب... ما الفائدة التي تعود عليك من ذلك؟

المشاركة في المهرجانات الأدبية هي التعريف بهوية الشاعر أمام المتلقين ومعرفة مدى وصول الشاعر إلى الغاية الجمالية التي يحاول دائماً أن يصل إليها من خلال ذاته لا من خلال المتلقي، ويمكن القول إن المشاركة في المهرجانات تعطي صورة أخرى لفضاء المتلقي وعالم آخر يضاف إلى هوية الشعراء الآخرين.

• ما المشروع الأدبي الذي تعكف عليه الآن؟

داخل كل مبدع مشروع أدبي ضخم لا يستطيع أن يحدده، فالعالم يحدد أو يفرض عليه هذا المشروع الذي يحاول من خلاله أن يؤثث معنى الحياة أو الوصول إلى بوابة العالم... المشروع الأدبي القادم هو طبع مجموعتي الشعرية "صورة شمسية لولدٍ عنيد" وهي محاولات ذاتية للكشف عن حوار الذات ومعرفة العالم والحياة والتجارب الأخرى التي تصيب الشاعر.

«صورة شمسية لولدٍ عنيد»

رائحةُ الخبزِ

ضفيرةٌ تلفُّ وجهَ مدينتي...

والصباحُ يترجَّلُ صالباً ذراعيهِ

بدخانِ الرَّصاص

فلا تقاوميني يا... حبيبتي...

إنّني وَلَدٌ عنيدْ...

أقفزُ كالأرنبِ في الحافلات

كي أقطعَ تذكرةَ سنواتِ عمري

التي أحرقتْها البلادْ

ودفترَ أولِ أنثى أشعلتْ شرايينَ قلبي

بنارٍ من الأمنيات...