الروس لم يعودوا يخشون القتل!
يبدو رد الكرملين القاسي على المعارضة الشعبية المتصاعدة في روسيا متهوراً وبعيداً كل البعد عن الواقع، أو "غبياً بكل بساطة"، كما يقول المعارض الديمقراطي أليكسي نافالني.بعد دخول نافالني المستشفى فجأةً منذ أيام، غداة اعتقاله الأسبوع الماضي على خلفية تنظيم احتجاج غير مُصرّح به في موسكو، أعلن طبيب يمثّل "حزب روسيا الموحّدة" الموالي للكرملين أن وضعه يرتبط بـ"حساسية حادة"، لكن طبيبة نافالني الخاصة، أناستازيا فاسيلييفا، التي سُمِح لها بفحصه وقتاً قصيراً في المستشفى تشتبه في تعرّضه للتسمم، وقد أرسلت عينات من شعره وقميصه إلى خبراء خارجيين لتحليلها.وحين عاد نافالني إلى زنزانته، نجح بكل شجاعة في نشر عبارة تؤكد شكوك فاسيلييفا: "لم أُصَب يوماً بالحساسية، لا تجاه الطعام ولا غبار الطلع ولا أي عنصر آخر".
إذا اتّضح أن نافالني تسمّم فعلاً، فلن يكون ما حصل مفاجئاً، فالكرملين معروف بقتل أو إيذاء المعارضين، ولا شك في أن نافالني على رأس لائحة أعدائه، فهو لا يجذب آلاف المناصرين إلى المسيرات التي ينظمها ضد حكومة بوتين فحسب، بل إن "مؤسسة مكافحة الفساد" التي يديرها تشكّل مصدراً دائماً لفضائح مريعة تكشف فساد الزمرة الحاكمة بقيادة بوتين ويشاهدها ملايين الروس في قناته على يوتيوب وفي موقع navalny.com.يرغب الكرملين طبعاً في التخلص من نافالني، لكنّ قتل هذا الناشط البالغ من العمر 43 عاماً بطريقة مباشرة سيطلق حتماً احتجاجات غير مسبوقة في صفوف حركة المعارضة المتوسّعة، لأنه يحظى بشعبية كبيرة وقد حقق المركز الثاني في الانتخابات البلدية لعام 2013 في موسكو. هذا ما يفسّر قرار السلطات باستعمال التكتيك القديم المبني على إطلاق تحذير خطير مفاده أن أي تحركات إضافية من جانب نافالني وناشطين آخرين لدعم الاحتجاجات ستكون مميتة.بغض النظر عن الوقائع التي ستظهر بشأن مرض نافالني، سبق أن أصبح الكرملين في موقف خطير، بعدما استعملت قوات الحرس الوطني التابعة له الهراوات والغاز المسيل للدموع ضد المحتجين في موسكو عشية اعتقال نافالني واعتقلت حوالي 1400 شخص. بنظر عدد كبير من المعلّقين الروس، يُعتبر هذا العنف المباشر هزيمة للنظام، ويثبت أنه خسر قدرته على التحكم في المعارضة.من بين آلاف المتظاهرين (لا يزال عددهم غير واضح لأن الشرطة فرّقت الحشود حين اقتربت من الشوارع الرئيسة)، شارك شبان عاديون وأمهات وحتى أولاد، وتعليقاً على الوضع، قالت الصحفية الروسية يوليا لاتينينا التي اضطرت بدورها للهرب من روسيا عام 2017 بعد حملة من الاعتداءات العنيفة: "لقد أعلنت روسيا الحرب على الشعب، لا على المعارضة فقط". اندلعت الاحتجاجات الأخيرة بسبب رفض المسؤولين عن التصويت تسجيل عدد من الديمقراطيين كمرشحين للانتخابات البلدية في موسكو خلال شهر سبتمبر، على اعتبار أن جزءاً من التواقيع المطلوبة للمشاركة في الانتخابات مزوّر، ثم استاء منتقدو الكرملين بدرجة إضافية حين اعتقلت الشرطة عدداً من المرشحين المحتملين. لكن السخط العام يشتق من أسباب أعمق، نتيجة العقوبات الاقتصادية والاقتصاد الروسي البطيء والمُتّكل على النفط، بدأ مستوى معيشة معظم الشعب الروسي يتراجع بشكلٍ ملحوظ، بينما تنعم النخبة الحاكمة بالرخاء بفضل الفساد المستفحل.وفي تجسيدٍ واضح لحجم الهوة بين قادة روسيا وشعبها، نشر بوتين، تزامناً مع تفاقم الأزمة في موسكو يوم السبت، صورة دعائية أخرى يستعرض فيها رجولته أثناء غوصه في مركبة تحت الماء باتجاه خليج فنلندا لتفقّد غواصة سوفياتية غرقت خلال الحرب العالمية الثانية. بدا كأنه لا يهتم بأن يتذكّر الرأي العام ردّه الشائب على كارثة غواصة "كورسك" المأساوية في أغسطس 2000.في منشوره الأسبوع الماضي، تساءل نافالني بكل جرأة: ما الذي يجعل السلطات غبية بما يكفي لتسميمه في مكانٍ كفيل بتوجيه أصابع الاتهام نحوها؟ لكنه تابع: ألم تكن تلك السلطات غبية بما يكفي لتسميم منتقد الكرملين فلاديمير كارا مورزا، لا مرة واحدة بل مرتين، وسيرغي سكريبال في بريطانيا، حيث كانت الخطة خرقاء لدرجة أن تُضحِك العالم أجمع؟ ألم تكن حمقاء بما يكفي كي تمنع الاحتجاجات الأخيرة ثم تعتقل 1400 شخص؟ثم استنتج نافالني: "حتى الآن، يمكنني أن أؤكد أمراً واحداً: يتولى أغبياء وحمقى حكم روسيا، قد نظن أن أفعالهم تحمل معنى سرياً وعناصر منطقية، لكنهم فعلياً مجرّد أشخاص أغبياء وغاضبين ومهووسين بالمال".صحيح أن الكرملين قد يتابع قمع المحتجّين، لكن من الواضح أن أعمال العنف التي ترتكبها الشرطة والادعاءات المرتبطة بتسميم نافالني زادتهم شجاعة. وتتعدد الاحتجاجات المرتقبة في موسكو، ومن المتوقع أن ينزل الناس حينئذ إلى الشوارع للتعبير عن دعمهم للمعارضة.* إيمي نايت * "غلوب أند ميل"