الرهان ضد الجميع.. قصة الطبيب الثلاثيني الذي تفوق على خبراء وول ستريت
في أواخر تسعينيات القرن الماضي، كان مايكل بيري مجرد طبيب بقسم الأعصاب بمركز ستانفورد الصحي الجامعي في الولايات المتحدة، ولكنه كان يركز أثناء وقت فراغه في المساء على هوايته: الاستثمار.في غرف الدردشة وداخل المنتديات على الإنترنت، دارت نقاشات بين بيري وآخرين حول الاستثمار وأسواق المال، وفي الوقت الذي لم يكن يحظى فيه ما يسمى بـ «استثمار القيمة» بالشعبية التي يتمتع بها الآن، وصف «بيري» نفسه بأنه واحد من مستثمري القيمة.ترك بيري لاحقاً عمله كطبيب ليؤسس صندوق التحوط الخاص به ويدخل بشكل مباشر في عالم الاستثمار، ليتمكن بعدها بسنوات قليلة من القيام بصفقة لا يزال يتذكرها كل من وطأت قدمه وول ستريت، ضمنت له مكاناً في التاريخ، وجعلته واحداً من أشهر مديري صناديق الاستثمار على الإطلاق.
في هذا التقرير سيتم تناول قصة بيري منذ قدومه إلى وول ستريت، وتتبع خطواته إلى أن قام بصفقة مبادلات العجز الائتماني الشهيرة، والتي تناولها كتاب «The Big Short» أو العجز الكبير لـ «مايكل لويس»، والذي تم طرح قصته في إطار فيلم درامي يحمل نفس الاسم.
الخطوات الأولى
في أوائل عام 2004 دخل مايكل بيري المستثمر البالغ من عمر وقتها 32 عاماً لأول مرة إلى سوق السندات، وهناك حاول بقدر الإمكان تعلم كيفية عمل وطبيعة هذا السوق، لم يتحدث إلى أي شخص حول هوسه الجديد، ولكنه جلس وحده بمكتبه بسان خوسيه في كاليفورنيا يقرأ ويطالع الكتب والمقالات والبيانات المالية.وبالتحديد، أراد بيري أن يتعرف بشكل دقيق على سوق العقارات المضمونة بسندات ثانوية (Sub-Prime Mortgages)، وعلى خلاف ما قد يعتقده البعض، لم يكن سبب هذا الاهتمام هو رغبة بيري في شراء سندات الرهن العقاري، ولكن الفكرة التي كانت مسيطرة على رأسه طوال الوقت هي كيف يمكنه المراهنة على انهيار الصناعة التي يقف وراء ازدهارها في ذلك الوقت الكبار في وول ستريت من القطاعين العام والخاص!قضى بيري نهاية عام 2004 وأوائل عام 2005 يقرأ ويحلل مئات النشرات الخاصة بسندات الرهن العقاري، والتي قد يصل طول الواحدة منها إلى 130 صفحة، وتشمل معلومات وتفاصيل أقل ما توصف به أنها مملة لدرجة أن المحامين الذين صاغوها لم يقرؤها أكثر من مرة واحدة.قبل بضع سنوات من ذلك التاريخ، ظهرت ما تسمى بمبادلات العجز الائتماني (credit-default swaps)، وفي البداية تسببت هذه الأداة المستحدثة في حالة من الارتباك لدى المستثمرين الذين لم يستطيعوا فهم كيفية عملها بسهولة، وذلك لأنها فعلياً لم تكن مبادلة على الإطلاق، بل كانت أقرب إلى بوليصة التأمين.ولتوضيح كيفية عملها لنضرب المثال التالي: مستثمر دخل في عقد «مبادلة عجز ائتماني» لسند قيمته 100 مليون دولار أصدرته الشركة «س» بأجل استحقاق قدره 10 سنوات مقابل 200 ألف دولار سنوياً، ببساطة هذا المستثمر نقل خطر تخلف المصدر عن السداد إلى طرف ثالث مقابل الـ200 ألف دولار.وأكثر ما يمكن أن يخسره هذا المستثمر هو مليونا دولار (200 ألف دولار لعشرة سنوات)، بينما أكثر ما يمكنه ربحه هو 100 مليون دولار، وذلك في حال تعثرت «س» عن السداد في أي وقت خلال السنوات العشر، ببساطة، الأمر أشبه بالمعادلة الصفرية، ما يخسره طرف هو ذاته ما يربحه الآخر.بيري كان موجوداً بالفعل في سوق مبادلات العجز الائتماني، ففي عام 2004 بدأ في شراء مبادلات العجز الائتماني على الشركات التي اعتقد أنها قد تعاني من انكماش عقاري، مثل مقرضي الرهون العقاري وشركات التأمين العقاري، إلى آخره، ولكن ذلك لم يكن مرضياً تماماً لـ بيري، وذلك لأن انهيار السوق العقاري قد يتسبب في خسارة تلك الشركات ولكن ليس هناك ضمان أن يدفعهم ذلك للإفلاس.البحث عن البندقية الأفضل للقنص
أراد بيري أداة أكثر مباشرة للمراهنة ضد الرهون العقارية المضمنة بسندات ثانوية وليس ضد الشركات.في 19 مارس عام 2005 أغلق بيري على نفسه باب مكتبه ليبقى بمفرده يقرأ كتاباً مدهشاً عن المشتقات الائتمانية، لتأتي له الفكرة التي شكلت مستقبله: مبادلات العجز الائتماني لسندات الرهن العقاري المضمنة بسندات ثانوية.جاءت هذه الفكرة لـ بيري أثناء قراءته كتاب يتناول تطور سوق السندات الأمريكي، وظهور أول عقد مبادلة عجز ائتماني لسندات الشركات من قبل «جي بي مورجان» في التسعينيات، وذلك بمجرد أن مر بفقرة تشرح سبب تصور البنوك في ذلك الوقت بأنها بحاجة إلى ذلك النوع من العقود.لكن المشكلة الكبيرة التي واجهت بيري، هي أن هذه الأداة ليس لها وجود، لا يوجد ما يسمى بمبادلات العجز الائتماني لسندات الرهن العقاري المضمنة بسندات ثانوية، لذلك كان في حاجة إلى إقناع الشركات في وول ستريت بخلق هذه الأداة. ولكن ما هي تلك الشركات؟فإذا كان على حق وسوق الإسكان سينهار فعلاً، فمن المؤكد أن الشركات الضالعة بهذا المجال ستفقد الكثير من الأموال، ولا يوجد هناك منطق وراء حمل ما يشبه بوليصة التأمين ضد شركة قد تدفعها الأزمة إلى خارج السوق، ولهذا السبب تجاهل بيري كلاً من بير ستيرنز وليمان برازرز.«غولدمان ساكس» و«مورغان ستانلي» و«دويتشه بنك» و«بنك أوف أمريكا» و«يو بي إس» و«ميريل لينش» و«سيتي غروب»، هذه هي الأسماء التي كانت في ذهن بيري والتي اعتقد أنها البنوك صاحبة الفرصة الأكبر في النجاة حينما تتجه الأمور إلى الأسوأ، ذهب بيري إلى البنوك السبعة، ولم يكن لدى خمسة منهم أي فكرة عن ما تحدث معهم عنه.وول ستريت لا يرى الشمس!
في التاسع عشر من مايو عام 2005 قام بيري بأول صفقة لمبادلات العجز الائتماني لسندات الرهن العقاري المضمنة بسندات ثانوية، فقد اشترى عقوداً بقيمة 60 مليون دولار من «دويتشه بنك» (10 ملايين دولار لـ6 سندات مختلفة)، وبهذا تمكن من المراهنة على سندات محددة وليس على السوق بالكامل، وبالتأكيد يُتوقع من مستثمر مثل بيري أن يراهن ضد السندات الصحيحة.كرس بيري وقته لتحليل البيانات المالية وسوق الإسكان بشكل عام باحثاً عن أسوأ السندات وليس أفضلها، للمراهنة ضدها، فقد قام بتحليل كل شيء تقريباً يخص تلك السندات، مثل نسبة القرض إلى قيمة المنزل، والقروض الأخرى على المنزل، وموقعه، وهل يوجد وثائق للمنزل أو لا، وهل هناك إثبات لدخل المقترض أو لا، وغيرها من العوامل التي فحصها بدقة فقط ليراهن بأمواله على الحصان الصحيح.ما أثار اندهاش بيري هو أن مسؤولي «دويتشه بنك» لم يثر اهتمامهم اختياره لهذه السندات بالتحديد للمراهنة ضدها، فبالنسبة لهم جميع سندات الرهن العقاري المضمنة بسندات ثانوية متشابهة ولا يوجد اختلاف بينها.فضل بيري المراهنة ضد الرهون العقارية المدعومة بسندات من الفئة B (وفقاً لتصنيف ستاندرد آند بورز)، والتي توصل تحليله إلى أن قيتمها ستساوي الصفر إذا تراجعت قيمة السندات الداعمة لها بنسبة 7% فقط، وتوقع أن البنوك الاستثمارية صاحبة الصيت سوف تكشف أمره وتدرك أنه راهن ضد السندات الأسوأ لتقوم بتعديل أسعار عقود المبادلة، ولكن هذا لم يحدث.أرسل «غولدمان ساكس» رسالة بريد إلكتروني لـ بيري شملت قائمة طويلة من سندات الرهن العقاري السيئة جداً التي يمكنه المراهنة ضدها، كان الأمر أشبه بالصدمة له، فقد تم تسعير تلك السندات وفق أقل تصنيف من واحدة من وكالات التصنيف الائتماني الثلاثة الكبرى، وهو ما مكنه من الاختيار بسهولة وبهدوء، دون أن يشعرهم بعمق معرفته ودراسته لتلك السندات.ببساطة الأمر كان أشبه بأنه بإمكانك شراء بوليصة تأمين ضد الفيضان على منزل يقع بالقرب من النهر بنفس السعر الذي تستطيع به شراء بوليصة للتأمين على منزل مبني على قمة الجبل.لأسابيع ظل بيري يلح على «بنك أوف أمريكا» ليبيعه من هذه العقود، إلى أن وافقوا أخيراً على بيعه 5 ملايين دولار منها، وبعد 20 دقيقة من إرسالهم بريداً إلكترونياً له لتأكيد الصفقة، رد عليهم بيري في رسالة أخرى قائلاً «هل من الممكن أن نقوم بصفقة أخرى؟».في غضون أسابيع قليلة اشترى بيري مبادلات عجز ائتماني لسندات الرهن العقاري المضمنة بسندات ثانوية بمئات الملايين من الدولارات من ما يقرب من 6 بنوك.أثناء تدقيقه في السوق، وجد بيري تجمع (Pool) من رهون عقارية ذات فائدة متغيرة سالبة تساوي 100%، بمعنى أنه يمكن للمقترضين عدم سداد أي فائدة على الإطلاق، مقابل أن تتراكم ديونهم بشكل أكبر وأكبر إلى أن يتعثروا تماماً.البنك التابع له هذا الصندوق «غولدمان ساكس» لم يقم ببيع بيري عقد مبادلة ضد هذا الصندوق فقط، ولكنه أرسل له رسالة يشكره فيها على أنه أول مستثمر في وول ستريت يستثمر في هذا المنتج بالتحديد، بيري في تعليقه على هذه الواقعة لـ مايكل لويس يقول «وجدت نفسي أُعلم الخبراء!».شركاؤه يقفزون من السفينة
عندما علم مستثمرو صندوق التحوط الذي يديره بيري أن حوالي مليار دولار من أموالهم استثمرت في مقايضات العجز الائتماني لسندات الرهن العقاري لم يكونوا سعداء، فعلى الرغم من ثقتهم في بيري كمستثمر، تساءل البعض ما هي هذه الأداة التي لم يُسمع عنها من قبل، وما المميز بها ليتم استثمار مئات الملايين من أموالهم بها، ولماذا يوافق «غولدمان ساكس» على بيعها.دافع بيري عن نفسه أمام مستثمريه، وذكرهم بحقيقة أن مؤشر «إس آند بي 500» وهو المؤشر المرجعي للصندوق الذي يديره والمسمى «سيسون كابيتال» تراجع بنسبة 6.84% خلال خمس سنوات هي عمر الصندوق في ذلك الوقت، بينما ارتقعت قيمة الصندوق خلال نفس الفترة بنسبة 242%، ورغم ذلك غادره عدد غير قليل منهم، محاولين على حد اعتقادهم النجاة بأنفسهم من الخسارة المحققة.في تطور غريب، بدأ عدد من رجال وول ستريت إدراك خطوات بيري وما يسعى إليه، أرسل «جريج ليبمان» من «دويتشه بنك» رسالة إلى بيري يعرض عليه أن يشتري منه جميع ما يمتلكه من عقود المبادلة، وكان رد بيري عليه كالتالي «شكراً لاهتمامك غريغ ولكن نحن في وضع جيد هكذا« بعد ثلاثة أيام، اتصلت به «فيرونكا جرنشان» من «غولدمان ساكس» لذات السبب.استغرب بيري من الأمر، خصوصاً بعد أن قدم له «مورغان ستانلي» عرضاً مشابهاً، ولكنه علم لاحقاً أن جميعهم أدركوا فجأة أن القروض المصدر على أساسها السندات المؤمن ضد تخلفها في طريقها للحضيض.حان وقت الحصاد
بحلول فبراير عام 2007، بدأت الرهون العقارية المضمنة بسندات ثانوية في الانهيار بأرقام قياسية، لتتخبط أرجل الجميع في وول ستريت، ولم يكن هناك من يتابع الوضع باستمتاع سوى مايكل بيري الطبيب السابق البالغ من العمر 36 عاماً وقتها.- كان بيري قد أخبر المستثمرين معه بصندوق التحوط الذي يديره بأنهم قد يحتاجون إلى التحلي بالصبر إلى أن يأتي موعد استحقاق الرهون العقارية التي أصدرت في عام 2005.لكنهم لم يكونوا صبورين، العديد من المستثمرين لم يثقوا في بيري الذي شعر بأن انسحابهم من الصندوق بمثابة خيانة، ليقول وقتها «كل ما أريده هو النوم والاستيقاظ في عام 2007»، في سبيل الحفاظ على رهاناته اضطر بيري لإقالة نصف العاملين لديه بالصندوق، ليصبح أكثر عزلة من أي وقت مضى.في نهاية المطاف، ربح بيري 100 مليون دولار، وربح المستثمرون الذين لم يتخلوا عنه 725 مليون دولار، بحلول الثلاثين من يونيو 2008 تمكن كل مستثمر ظل مع بيري في صندوق «سيسون كابيتال» منذ تأسيسه في الأول من نوفمبر عام 2000 من تحقيق عائد على رأس المال قدره 489.34% بعد احتساب الرسوم والمصاريف، وبلغ الربح الإجمالي للصندوق 726%، وخلال نفس الفترة، تراجع مؤشر «إس آند بي 500» بنسبة تزيد قليلاً على 2%.