الأوروبيون لا يتقاسمون القيم الأميركية!
هناك مفارقة حقيقية تكمن في ميل مناصري ترامب إلى الاعتراف بأن الرئيس بعيد كل البعد عن المعايير الثقافية الأميركية، لكن تجاهله للمعايير والتقاليد السائدة يعد بنظر الكثيرين عاملاً أساسياً من جاذبيته، وبرأي خصومه هو العنصر الجاذب الوحيد فيه!
للثقافة دور أساسي، وأهمية فائقة! إنه موضوع شائع داخل حركة «المحافظين الوطنيين» الجديدة التي تحاول أن تعيد رسم معالم اليمين الأميركي. تُعتبر إيمي واكس، أستاذة القانون في جامعة «بنسلفانيا»، من أبرز المفكرين المثيرين للجدل في هذا المعسكر، وقد أثارت جدلاً واسعاً في الفترة الأخيرة حين دعت الولايات المتحدة إلى أخذ مبدأ «التباعد الثقافي» في الاعتبار قبل اتخاذ قرار استقبال المهاجرين أو رفضهم.في مؤتمر افتتاحي من تنظيم حركة المحافظين الوطنيين في وقتٍ سابق من هذا الشهر، اعتبرت واكس أن هذه النزعة ترتكز في الأساس على الفكرة القائلة إن «معظم سكان العالم الثالث لا يتقاسمون بالضرورة أفكارنا وقناعاتنا، ويستعمل آخرون أسلوب التملق، لكنهم لا يفهمون تلك القيم فعلياً، وإن كانت ثمة استثناءات طبعاً، لكنها حالات نادرة». واستناداً إلى هذا المبدأ، استنتجت أن «تطبيق مبدأ القومية المبني على التباعد الثقافي يعني أن نفهم أنّ وضع بلدنا سيتحسن عبر زيادة أصحاب البشرة البيضاء فيه مقابل تقليص أعداد المنتمين إلى أعراق أخرى. هذه هي النتيجة النهائية في مطلق الأحوال».لكن واكس بكلامها هذا تطرح فرضية كبرى مفادها أن سكان أوروبا يحملون «الأفكار والقناعات» التي يتبناها الأميركيون. وحين يفضّل ترامب المهاجرين النرويجيين على القادمين من الدول النامية، يتّضح من تعليقاته أنه مقتنع بالرأي نفسه. لكن تبرز مشكلتان أساسيتان في هذا الافتراض: أولاً، حتى الأميركيين أنفسهم لا يُجمِعون على معنى الثقافة الأميركية. ثانياً، حدّدت الديمقراطيات الأميركية والأوروبية ثقافاتها الوطنية تاريخياً بطرقٍ مختلفة جداً.
في الديمقراطيات الأوروبية، تبدو الفكرة القائلة بأن الهجرة تطرح تحديات استثنائية على التضامن الثقافي متماسكة بدرجة معيّنة، إذ تتجاوز الثقافة الدنماركية أو الثقافة الهولندية مثلاً الانقسامات الحزبية، وتتقبل أبرز الأحزاب الوسطية اليمينية واليسارية هذا الواقع باعتباره انعكاساً واسعاً لمختلف فئات المجتمع. غالباً ما ترتكز تلك الثقافة على الالتزام بالقيم الليبرالية، على غرار المساواة بين الجنسَين، والحرية الجنسية، وتوفير مساحات عامة محايدة. بناءً على ذلك، تطلب الأحزاب الشعبوية اليمينية، وحتى الأحزاب الطاغية بدرجات معيّنة، من المهاجرين الجدد أو المحتملين أن يتقبلوا أو يتبنوا هذه الثقافة الوطنية. صوّر المتشددون في أوروبا الغربية مثلاً المهاجرين المسلمين كأشخاص معادين للمثليين وسعوا، تحت راية حماية حقوق المرأة، إلى إلغاء حق النساء في ارتداء الحجاب. يدفع هذا الإصرار على تطبيق القيم الليبرالية بأسلوب عدائي، أو حتى قسري أحياناً، بالشعبويين اليمينيين إلى تبنّي مواقف غير ليبرالية، وكأنهم يطبّقون مبدأ «الليبرالية غير الليبرالية». في الولايات المتحدة، يعتبر المحافظون النظام السياسي الليبرالي، الذي يعطي قيمة للحقوق غير القابلة للتفاوض والحرية الشخصية والخيارات الفردية، تهديداً على ثقافة تاريخية مزعومة لم تعد قائمة أصلاً. عملياً، ثمة إجماع واسع على غياب الإجماع حول تعريف العقيدة الأميركية، ما يؤدي إلى زيادة تعقيد أي مقاربة جديدة للتعامل مع ملف الهجرة، وفي ظل غياب مفهوم مشترك للثقافة الأميركية، إلى أي جانب منها سننحاز؟يكون عدد كبير من المحافظين الوطنيين غير ليبرالي أو مُعاديا لليبرالية لو كانت الولايات المتحدة بلداً ليبرالياً، بمعنى أن تدعم التقاليد الدستورية الليبرالية، فهل يجب أن نُصعّب إجراءات الهجرة إلى الولايات المتحدة على مناصري الأحزاب الشعبوية اليمينية، على غرار حزب «رابطة الشمال» في إيطاليا أو «حزب الحرية» في النمسا؟ في أنحاء أوروبا، يكون أصحاب البشرة البيضاء، وهم يشكّلون الأغلبية العرقية هناك، أكثر ميلاً إلى تبني مفهوم القومية الإثنية من المنتمين إلى أعراق أخرى. وبموجب نظام الهجرة الذي تقترحه واكس بناءً على درجة «التباعد الثقافي»، من المنطقي أن يعتبر أي مؤيد للحزب الديمقراطي أن الأوروبيين البيض أكثر ميلاً إلى تبني مفاهيم تتعارض مع القيم الأميركية. تتعلق واحدة من تلك القيم بالجنسية المُكتسبة عند الولادة، وهو حق منصوص عليه في الدستور ويشكّل جزءاً محورياً من هوية الولايات المتحدة وامتيازاتها. وإذا عبّر أي أوروبي أبيض عن معارضته لقانون الجنسية المُكتسبة (لا يطبّق أي بلد أوروبي هذا القانون راهناً)، فهل ستتأثر فرص هجرته إلى الولايات المتحدة؟ هذا ممكن!تكمن المفارقة الحقيقية في ميل مناصري دونالد ترامب إلى الاعتراف بأن الرئيس بعيد كل البعد عن المعايير الثقافية الأميركية، لكن بنظر الكثيرين، يُعتبر تجاهله للمعايير والتقاليد السائدة عاملاً أساسياً من جاذبيته (إنه العنصر الجاذب الوحيد فيه برأي خصومه!)، فهو لا يشبه معظم المواطنين الأميركيين العاديين. ويلفت المحافظون النظر إلى أن تطبيق التماسك الثقافي والتعددية بطريقة متطرفة قد يُضعف الثقة وينتج صراعاً مدنياً، لكن لو كان أي رجل سويدي أبيض يتبنى وجهات نظر ترامب حول الإسلام («أظن أن الإسلام يكرهنا»!) ويعتقل الأميركيين من أصل ياباني ويصدّ الأقلية النسائية في الكونغرس، لاعتُبر ذلك الشخص مصدر تهديد على التماسك الثقافي الأميركي أكثر من رجل غانيّ غير أبيض يتبنى أفكاراً أقرب إلى مواقف النائبة ألكسندريا أوكازيو كورتيز مثلاً. ولو حاول ترامب شخصياً أن يهاجر إلى الولايات المتحدة بطريقة قانونية، لكانت سياسة الهجرة المبنية على معايير ثقافية ضيّقة (أو الثقافة السائدة راهناً على الأقل) رفضت طلبه على الأرجح. ذكرت إيمي واكس في أحد تصريحاتها حديثاً كتاب الراحل صامويل هانتينغتون، «من نحن؟»، وهو أشبه بنص تأسيسي للمحافظين الوطنيين، مع أنه تعرّض لانتقادات لاذعة عند صدوره في عام 2004. وفي كتاب Culture Matters (الثقافة مهمّة) الذي شارك هانتينغتون في تحريره، عرّف هذا الأخير الثقافة باعتبارها «عبارات ذاتية بحتة وقيم، ومواقف، وقناعات، وتوجهات، وفرضيات كامنة تطغى بين الناس في أي مجتمع». الثقافة مفهوم ذاتي فعلاً، وهذا الجانب تحديداً جزء من المشكلة المطروحة. تتغير الثقافات طبعاً، لكننا لا نعرف طريقة تغيّرها. يتفق الأميركيون حتى الآن على أهمية الامتيازات الأميركية، لكنهم ما عادوا يُجمِعون على طبيعة الثقافة أو الفكرة الأميركية (ربما لم يتفقوا عليها يوماً!). لذا سيكون تقييم درجة «التباعد الثقافي» مع أي مهاجر محتمل صعباً أو حتى مستحيلاً، في النهاية، لا يمكن أن نكون وطناً بحد ذاته إذا كنا لا نتفق على جوهر هويتنا!
في الديمقراطيات الأوروبية تبدو الفكرة القائلة بأن الهجرة تطرح تحديات استثنائية على التضامن الثقافي متماسكة بدرجة معيّنة