حان وقت عقد أوكرانيا وأميركا صفقة مع روسيا
اكتملت الآن الثورة الأوكرانية، وقد انتخبت تلك الدولة أخيراً رئيساً هو الكوميدي فولودايمير زيلينسكي الذي تفوق على منافسه الرئيس الحالي بهامش من 3 الى واحد على وجه التقريب. وقد حصل حزبه على أول أكثرية في البرلمان منذ تحرر أوكرانيا من الهيمنة السوفياتية، وعلى زيلنسكي الذي اكتسح الى حد كبير كل الأحزاب المؤيدة لاستمرار المواجهة مع روسيا، أن يستخدم الآن سلطته الجوهرية لتحقيق سلام مع موسكو. وبوسع الولايات المتحدة وأوروبا المصادقة على الصفقة المرجوة مع الكرملين كما يتعين على ادارة الرئيس ترامب انهاء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو وهذا النزاع غير ضروري، وهو ليس في مصلحة أي من الطرفين. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس ليبرالياً غربياً ولا صديقاً للولايات المتحدة وهو يتبع أجندته الخاصة من دون النظر الى ما تريده واشنطن، كما أنه سار على الخط الأميركي في التدخل في انتخابات الدول الأخرى من أجل تحقيق أهداف سياسية كما حدث في الانتخابات الرئاسية التي جرت أخيراً في الولايات المتحدة.
وكانت ادارة الرئيس جورج بوش استمرت في تحسين توسع حلف شمال الأطلسي وحتى الى جورجيا التي بدأت حرباً ضد روسيا وهي تتوقع الحصول على دعم من واشنطن وأوكرانيا. وفي عام 2014 جاء دور أوروبا للقيام بمحاولة لسحب كييف نحو الغرب بدوافع اقتصادية وبدعم من بروكسل وواشنطن من أجل تنظيم مظاهرات شعبية ضد الرئيس الأوكراني صديق موسكو الذي فاز في انتخابات نزيهة، وفي أعقاب ذلك التطور تحدث مسؤولون أميركيون بشكل علني عن مرشحيهم المفضلين للرئاسة في أوكرانيا.
قرار ضم شبه جزيرة القرم
لا شيء من ذلك كله يبرر قيام موسكو بشن حرب على أوكرانيا واتخاذ قرار بضم شبه جزيرة القرم بالقوة، وعلى أي حال، فقد قوض السلوك الغربي ذلك الزعم القائل إن بوتين هو هتلر الجديد الذي يهدف الى الهيمنة على العالم، وليس بوسع روسيا غزو أوروبا حتى إذا أرادت ذلك لأن القارة تملك قوة اقتصادية تصل الى 10 أمثال قوة روسيا و 3 أمثال عدد السكان في روسيا أيضاً، وعلى الرغم من قيام موسكو بإعادة بناء قوتها العسكرية فإنها تظل دولة متراجعة وهي تركز فقط على ضمان احترام أمنها ومصالحها من جانب الغرب.واليوم يبدو بروز غضب عاصف في الكونغرس الأميركي الذي يسعى الأعضاء فيه الى معاقبة أي شخص وفي أي مكان يتخذ مواقف ضدهم. وعلى الرغم من ذلك فقد فشلت حملة العقوبات على موسكو بصورة تامة، ولا بد من الاشارة هنا الى أن حكومة بوتين لم تتخلَّ عن شبه جزيرة القرم ولا عن الانفصاليين في دونباس الأوكرانية ولم تغادر سورية ولا تتوقف عن دعمها للرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو أو تغير من سياستها الخارجية، كما أنه من غير المحتمل أن تفعل ذلك حتى إذا زادت الولايات المتحدة من ضغوطها، وفي الوقت نفسه أغلقت روسيا الفجوة مع بكين وشرعتا في تعاون ثنائي ضد أميركا.ويوفر انتخاب زيلينسكي فرصة بالنسبة الى أوكرانيا وأوروبا والولايات المتحدة من أجل اصلاح العلاقات مع روسيا. وخلال الحملة الانتخابية دعا زيلينسكي الى اجراء مفاوضات مع موسكو كما وعد بعدم التضحية بمناطق أوكرانية ومنذ ذلك الوقت استجاب بقوة لضغوط بوتين. وعندما عرضت موسكو تقديم جوازات سفر روسية الى سكان مدينة دونباس دعا زيلينسكي الرعايا الروس الى طلب جوازات سفر أوكرانية، وقد أقدمت كييف في الآونة الأخيرة على مصادرة ناقلة نفط روسية رداً على قيام روسيا في وقت سابق باحتجاز ثلاثة زوارق أوكرانية على الرغم من أنها أخلت سبيل طاقم الناقلة.من جهة أخرى، أجرى القائد الأوكراني الجديد محادثة هاتفية مع فلاديمير بوتين واقترح عملية تبادل للأسرى كما أشار الى رغبته في انهاء حصار المناطق الثائرة واقترح اجراء محادثات تشمل الرئيس الأميركي دونالد ترامب والعديد من الزعماء الأوروبيين. ومع حصول الرئيس الجديد على أكثرية في البرلمان الأوكراني سوف يتمكن من اقرار أي تشريعات لازمة من أجل تحقيق اتفاقية سلام، كما أن انهاء الحرب سوف يمكنه من التركيز على التهديدات والأخطار الوجودية التي تواجه بلاده والتي تتمثل على نطاق واسع في الفساد والفقر والتطرف واليأس، ويبقى السلام البارد أفضل كثيراً من حرب فاترة، وعليه أيضاً ملاحظة ما يلي: أولاً – يتعين على حلف شمال الأطلسي أن يشير الى أن توسع الحلف قد وصل الى نهايته، ومع قرار سلمي للنزاع الأوكراني لن تحدث زيادة جديدة لعدد القوات والمناورات الحربية أو القواعد على حدود روسيا، خصوصا في جورجيا أو أوكرانيا، وبدلاً من ذلك فإن الحلف سوف يصلح الاتصالات مع موسكو، والتي تضررت في السنوات القليلة الماضية.ثانياً – سوف يتم تشذيب وتنفيذ اتفاقية مينسك وسوف توفر كييف الاستقلال الذاتي للإقليم المتضرر فيما تنهي روسيا دعمها للانفصاليين، وسوف تحول حكومة بوتين هدفها من زعزعة الاستقرار الى اقراره مع تفهم أن وجود دولة صديقة مزدهرة على حدودها سوف يسهم في تحسين الاقتصاد والأمن في روسيا.ثالثاً – سوف ينهي الغرب العقوبات التي فرضها على روسيا وسوف يتحرك الجانبان نحو العودة الى العلاقات التجارية الطبيعية. رابعاً – سوف تتجنب موسكو المزيد من التدخل في القضايا السياسية الأميركية والأوروبية ويتعين أن يشمل ذلك الأنشطة السبرانية وتمويل المجموعات السياسية والقرصنة الانتخابية. وفي المقابل سوف تقر الولايات المتحدة بتدخلها السياسي السابق والتعهد بعدم التورط في عمليات مماثلة في المستقبل في الشؤون الروسية، بما في ذلك تمويل الجمعيات الخاصة الضالعة في أنشطة سياسية.خامساً – في ضوء هذه المعطيات سوف تكون أوكرانيا حرة في مساعيها من أجل تشكيل علاقات وروابط تجارية وتوقيع اتفاقات اقتصادية مختلفة في دول الشرق والغرب على حد سواء وبما يحقق لها مصالحها بصورة تامة. وبينما قد تعمد موسكو إلى المطالبة بنفوذ محسن في مجال القضايا الأمنية فإنها ليست قادرة على طلب الشيء ذاته بالنسبة الى الاستثمارات والتجارة، كما أن روسيا سوف تكف عن استخدام احتكارها للغاز على شكل سلاح لتحقيق أغراض سياسية، وسوف تسقط الولايات المتحدة في المقابل معارضتها لمشروع السيل الشمالي 2 بصورة واضحة.سادساً – سوف يترك تحديد الوضع النهائي لشبه جزيرة القرم الى المستقبل، وستعترف أوكرانيا والغرب بشكل غير رسمي بأنه من غير المحتمل أن تعيد روسيا ذلك الجزء من الأرض في أحسن الحالات والظروف في ظل رفض أوكرانيا والغرب رسمياً الاقرار بعملية الاستحواذ والضم، أما الاستمرار في الضغط من أجل عودة شبه جزيرة القرم فيمكن طرح اقتراح بإجراء استفتاء شعبي حول مصيرها، وعندئذ يمكن لواشنطن وبروكسل وكييف عرض حل رسمي يتمثل في استفتاء شعبي يجري تحت اشراف دولي لتقرير مصير القرم وهل يرجع ذلك الجزء من البلاد الى أوكرانيا أم الى روسيا؟الفوائد الواضحة لأميركا
الفوائد التي سوف تجنيها الولايات المتحدة من مثل هذا السلام واضحة بجلاء، وسوف تنهي موسكو جهودها الهادفة الى زعزعة استقرار أوكرانيا، بينما لن تتورط واشنطن في نزاع ليست له صلة بأمنها، وعندئذ سوف تعود الحياة الى العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وروسيا، في حين تكف موسكو عن تدخلها في الأمور السياسية. وتستطيع واشنطن البناء على هذا النجاح وتوجيه روسيا نحو مسار مختلف في قضايا جزيرة كوبا وفنزويلا والكثير من الدول الأخرى مثل ايران وكوريا الشمالية، وأخيراً قد تتمكن الولايات المتحدة من التركيز على ابعاد موسكو عن بكين.مما لا شك فيه أن مثل هذه الصفقة سوف تواجه معارضة قوية من البعض– وخصوصا في كييف – ومن الواضح أن في وسع أوكرانيا وحدها فقط أن تقرر أولوياتها، وعلى أي حال يتعين على الولايات المتحدة وأوروبا إبلاغ كييف أن أمن الغرب يتطلب إنهاء أي خطط لانضمام أوكرانيا الى حلف شمال الأطلسي، وأن أمن أميركا لا تخدمه مواجهة مع دولة نووية مثل روسيا، وبالتالي فإن على أوكرانيا أن تدرك أنها لا تستطيع الاعتماد على الآخرين في حمايتها.من غير المعروف كيف سينظر الرئيس زيلينسكي الى مثل هذا الاقتراح، ولكن سوف تكون لديه أسبابه الوجيهة لتقبل الاتفاق الذي ينهي تدخل روسيا العسكري في أوكرانيا وضمان قدرتها على اختيار خطواتها الاقتصادية وفقاً لمصالحها القومية، ومن المؤكد أن شبه جزيرة القرم لن ترجع، ولكن ليس على أوكرانيا الاعتراف بذلك بصورة رسمية.