وجهة نظر : برميل النفط يغرق في الصندوق الانتخابي
• العالم لم يشهد في تاريخه حقبة من انعدام الاستقرار وعدم اليقين التجاري كالتي يمر بها الآن
• جل المقترحات الشعبوية التي يتسابق النواب على طرحها من شأنها تضخم البنود الاستهلاكية في الميزانية
تسهم حالة الاحتقان الدولي الراهنة وضبابية التوقعات المستقبلية في زيادة حدة وسرعة التقلبات التي تشهدها أسعار النفط الخام، مما يضع البلدان التي ترهن اقتصادها بالنفط، والكويت في مقدمتها، في وضع لا تُحسد عليه. سعر تصدير برميل النفط الخام الكويتي كان قد انحدر من نحو 83 دولارا في أكتوبر 2018 إلى نحو 75 دولارا في أبريل الماضي، ثم إلى نحو 59 دولارا الأربعاء الماضي، أي أنه فقد نحو ثلث قيمته التي كان عليها قبل 10 شهور، مقتربا بذلك من السعر التحوطي المقدَّر للبرميل في ميزانية السنة المالية الجارية، وهو 55 دولارا.
النفط في مهب الريحأسعار النفط، كما اعتدنا منذ تحريرها في مطلع سبعينيات القرن الماضي، متقلبة وغير مستقرة، وباتت الآن في مهب الريح، بسبب تصاعد حدة التوترات الجيوسياسية والاقتصادية التي تعصف بأركان الكرة الأرضية، وأكاد أجزم بأن العالم لم يشهد في تاريخه حقبة من انعدام الاستقرار وعدم اليقين تجاري الحقبة التي يمر بها الآن.ورغم أن أحدا لا يمكنه التكهن بدرجة عالية من الموثوقية بمسار الأزمات العالمية الراهنة، ولو حتى في المدى القصير من الزمن، فإن غالبية التوقعات والقراءات المتاحة تميل إلى التشاؤم لا التفاؤل.الاقتراب من موعد استحقاقات انتخابات الرئاسة الأميركية، وانسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، والنزاعات الإقليمية المتفجرة، وتداعيات الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، وارتفاع جدران الحمائية التجارية الضارة، ودخول أسعار الصرف وأسعار الفائدة إلى ميدان المعركة، تشكِّل عناوين تهديد للاقتصاد العالمي، من شأنها أن تضر بمجمل التجارة العالمية، وتبطئ نمو مختلف اقتصادات الدول المتقدمة والناشئة والنامية. ثالثة الأثافيهذه الحالة الكارثية المتفاقمة المتروك حبلها على الغارب، لابد أن تنال من الاقتصاد العالمي برمته، وستكون بمنزلة ثالثة الأثافي بالنسبة للنفط وأسعاره، وهو ليس بمعزل عن عوامل أخرى تهدد مصيره أيما تهديد. قبل أن يعلن الرئيس الأميركي التعريفات الجمركية الجديدة على واردات الصين، كان بنك بي إن بي باريباس يُعد دراسته، التي خلصت إلى أن النفط لن يكون قادرا على المنافسة في أسواق الطاقة العالمية على المدى الطويل إذا لم يفقد ما بين 10-20 دولارا من قيمته الحالية، حيث إنه يواجه تحديا مصيريا من مزيج الطاقات المتجددة والسيارة الكهربائية. وخلصت الدراسة إلى أن عائد رأس المال المستثمر في طاقتي الشمس والرياح وتقنية السيارات الكهربائية أفضل بنحو 6-7 أضعاف من الاستثمار في إنتاج الوقود البترولي.والقول إن صناعة الوقود النفطي تمر بمنعطف أو بالأحرى بمنحدر خطير بات قولا مكرورا، لا يحتمل الجدل أو الجدال، والحصيف من منتجي النفط من بادر مبكرا - والنرويج مثالا - بقراءة ما هو قادم وتحوط منه، وما هو قادم ليس بحاجة إلى مجهر أو ميكروسكوب، بل لا يخفى عن العين المجردة.مقترحات شعبويةإن تسارع التقلبات الراهنة في أسعار النفط، وتزايد حدتها، يوجبان إعادة قرع الجرس في الكويت، المكبل اقتصادها بأغلال النفط، والتي تعاني ميزانيتها العامة عجزا ماليا كبيرا منذ بداية التراجع الحالي في أسعار النفط في النصف الثاني من عام 2014. وكان عجز الموازنة الأخيرة المنتهية في مارس 2019 بلغ بعد استقطاع مخصصات الأجيال القادمة نحو 3.35 مليارات دينار، وفق ما ورد في بیان الحساب الختامي للدولة المعلن في 29 يوليو الماضي، فيما تشير تقديرات الموازنة الجارية إلى عجز مناظر بنحو 7.7 مليارات دينار.وتواجه الميزانية العامة الكويتية، التي زادت مصروفاتها في السنة الجارية إلى 22.5 مليار دينار، معضلة حادة، لأن نحو ثلاثة أرباع هذه المصروفات بنود استهلاكية يصعب ترشيدها، لأنها تتكون من الأجور والمرتبات، وما في حكمها، والتي تبلغ مخصصاتها بالميزانية الجارية نحو 12 مليار دينار، أي نحو 54 في المئة من جملة المصروفات، فيما تبلغ مخصصات الدعم والإعانات نحو 4 مليارات دينار، أي نحو 18 في المئة من المصروفات.وفي الوقت الذي لا يمكن لأحد أن يعفي أجهزة السُّلطة التنفيذية - تخطيطا وسياسات ومساومات - من مسؤوليتها عن تفاقم معضلة الميزانية العامة وتضخم بنودها الاستهلاكية، إلا أن أحدا لا يستطيع أيضا أن يغفل دور قائمة طويلة من المقترحات البرلمانية في ترهل بنود المصروفات الاستهلاكية. ومن المتوقع، ونحن على أبواب دور الانعقاد الأخير من الفصل التشريعي الحالي، أن تنشط وتتصاعد وتيرة المقترحات والمطالبات النيابية باهظة الكلفة، والتي تنشد شراء ود الناخب وكسب رضاه بأي ثمن.إن جل المقترحات الشعبوية التي يتسابق رهط من النواب على طرحها، خصوصا في دور الانعقاد الرابع، من شأنها تضخيم البنود الاستهلاكية في الميزانية العامة، وهي بنود متضخمة أصلا. وتتسم هذه المقترحات عادة بضعف مسوغاتها ومبرراتها والتعجل في صياغتها، وهي في غالبيتها لا تستند إلى دراسات علمية أو موضوعية، ولا تتوافق مع مقاييس المنطق والحصافة، بل تتنافى في معظم الحالات مع أهم القواعد الدستورية المتصلة بتحقيق العدالة الاجتماعية بين المواطنين، مما يدل دلالة قاطعة على أن هذا الرهط من النواب في وادٍ، وكل التوترات الدولية العويصة والمعطيات المحلية المستعصية، بل ومعها أسعار النفط، في وادٍ آخر. * أستاذ الاقتصاد بجامعة الكويت