قبل «البوبجي» وأخواتها، والتي ترفع ضغط الطفل اسم الله عليه، وتنصب فعلياً على جيب والده بكروت «الأيتونز» كان جيلنا يمارس طفولته عبر ألعاب أخرى، كاللبيدة والمقصي وحي الميد، والأخيرة كانت المفضلة لدينا بشهادة العدول، فرغم بساطة قوانينها كان فيها تنافس عادل لا واسطة فيه، وكان فيها عناد عصامي قل مثيله، يحترم الجهد والمثابرة. وقوانين حي الميد غالباً واحدة، تقوم على فريقين، أولها حماة الميد وثانيهما»طلابته»، الفريق الأول حراس الثغور البواسل الحارسون للميد والرادّون عنه الهجمات الشرسة والفدائية من طلاب المجد الميدي، لكي لا يراق على جوانبه «دمدمة» حي الميد، وهي عبارة انتصار الفريق الثاني الهادرة، وكان معيار الفوز والخسارة يعتمد على السيطرة على الميد بنظام البصمة الموثقة على جدار الميد من الفريق المهاجم، أو ردهم من قبل الفريق المدافع حتى آخر «ورع» لهم في اللعبة. كبرنا واختفت أيام «حي الميد» خلف ضباب الذكريات، حتى اكتشفنا مؤخراً أننا طوال عمرنا كنا نلعبها، ولكن بتفاصيل أخرى، أصبح الميد سلعة نحاول الحصول عليها، والطرف الآخر يحاول ردنا، ولكنه لا يردنا بلمس عادل ومنصف كما كان يفعل الخصم في طفولتنا، فاللمس تحول إلى مس بدخل المواطن البسيط، فأصبحت سلال الميد تباع في سوق السمك بأسعار فلكية تمثل نسبة لا يستهان بها من رواتب المواطنين، وهنا أتحدث عن نسبة ١٠% وأكثر في البيعة الواحدة، حيث وصلت الأسعار إلى ٨٠ ديناراً للسلة الواحدة، أي ٦% من متوسط الراتب، هذا «المس» الميدي غير العادل لا شأن له بمفهوم العرض والطلب، فالعرض ممكن تحديده فقط في ظل المنافسة والمراقبة، والطلب كان هو ذاته سواء أثناء تدخل وزارة التجارة ووصول السلة إلى ١٠ دنانير أو أثناء الهجمة المرتدة للتجار ورجوع السعر إلى مستويات تقارب ما قبل تدخل «التجارة»، هي مجرد لعبة ولا أمل فيها لـ«حي الميد» ما دام الطرف الآخر يفرض قوانينه ونفوذه على الطرف الاستهلاكي الطامح إلى لمس شوية ميد مشوي مع عيش مشخول ومرقة ناطعة.
هذا هو الواقع، كبرنا ولم يعد الميد يحيينا بل يطردنا مع فتح الباب، وتلاشت أيام الطفولة وحي الميد، وصرنا نقول براتب مكسور: «وداعاً يا ميد».
مقالات
خارج السرب: وداعاً يا ميد
14-08-2019