حققت الولايات المتحدة وتركيا اختراقاً لافتاً تمثل في توصل طرفي المفاوضات الى اتفاق بعد عدة شهور من المفاوضات المتواصلة والمضنية حول الوضع في شمال سورية. وتشير الأنباء الرسمية من العاصمتين الى أن البلدين اتفقا على تنسيق جهودهما وخططهما من أجل اقامة منطقة عازلة – أطلق عليها اسم منطقة آمنة تحديداً – تقول تركيا إنها تهدف الى تشجيع عودة اللاجئين السوريين اليها في وقت لاحق. في غضون ذلك يقول خبراء إن هذه التطورات تشكل فرصة نادرة جداً بالنسبة الى الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أجل التراجع خطوة عن حافة الكارثة التي قد تسفر عنها الأوضاع المتأزمة في سورية. وعلى أي حال، يمكن القول إن في وسع الرئيس الأميركي ترامب انقاذ سياسته في سورية من خلال التوضيح الصريح بأن الولايات المتحدة سوف تبقى في سورية من أجل الدفاع عن مصالحها القومية الحيوية في ذلك البلد.
وتجدر الاشارة الى أن الرئيس الأميركي منذ أن أعلن عبر تغريدة في شهر ديسمبر الماضي أنه قرر سحب قوات بلاده من سورية وذلك من دون التشاور مع معظم قادته العسكريين أصبحت استراتيجية الولايات المتحدة في سورية – لاسيما في المناطق الشمالية الشرقية من ذلك البلد الذي أنهكته الحرب – مجرد «لخبطة» وتعثر ولا شيء أكثر من ذلك بحسب العديد من المحللين. من جهة أخرى – وفي المقابل – ينسب الفضل الى الرئيس ترامب نظراً لأنه قرر التراجع بصورة جزئية عن قراره وأعلن أيضاً في شهر فبراير الماضي أن مجموعة صغيرة من القوات الأميركية سوف تبقى في سورية من أجل مواجهة وتحجيم العناصر الاسلامية المسلحة اضافة الى ابقاء شراكة الولايات المتحدة مع الكرد ومراقبة القوات الايرانية في المنطقة.
التهديدات التركية المثيرة للقلق
في غضون ذلك يمكن القول إن الخلاف الأميركي – التركي دفع الى نقطة الانهيار تهديدات أنقرة بالقيام بغزو المناطق الشمالية الشرقية من سورية وهي خطوة تهدد بتحول سياسة الولايات المتحدة الغامضة الى ما يوصف بالفشل الذريع. وفي حال قيام القوات التركية بغزو سورية فإن الكرد قد يتحالفون مع الرئيس السوري بشار الأسد وهي خطوة تصب في مصلحة ايران وتنظيم داعش – وفي تلك الحالة سوف يتبخر أي تأثير لنفوذ الولايات المتحدة للضغط من أجل تحقيق حل سياسي مقبول.وبعد أشهر من التقدم الطفيف أعلنت وزارة الخارجية الأميركية أخيراً أن واشنطن وأنقرة اتفقتا على اقامة منطقة آمنة في الجانب السوري من الحدود مع تركيا على شكل «ممر سلام» نحو قيام مركز عمليات مشتركة في داخل تركيا من أجل الشروع في تفاصيل هذه الخطوة. وقال لي أحد كبار مسؤولي وزارة الخارجية الأميركية إن «الخطة تهدف الى تمكين القوات الأميركية من القيام بدوريات مع القوات التركية من أجل ضمان الأمن في المنطقة الآمنة، وأن التفاصيل ليست نهائية حتى الآن ولكن تقوية التعاون الأميركي – التركي في تلك المنطقة تحسن الفرصة لتحقيق الأهداف الأميركية والتوصل الى حل للنزاع في سورية».النفوذ الأميركي المنشود
وإذا أرادت الولايات المتحدة الحصول على أي نفوذ في ما يتعلق بالأحداث التي سوف تجري في سورية في المرحلة المقبلة يتعين عليها تسوية خلافاتها مع أنقرة والتي تنطوي على أسباب معقدة وخطيرة. والأكراد في سورية – وهم حلفاء لنا قمنا بتسليحهم لمحاربة تنظيم داعش – يجب أن يحصلوا على ضمانات بأن القوات التركية لن تقضي عليهم، كما يجب أن يحصل الأتراك على ضمانات بأن الأكراد سوف ينسحبون من مناطق الحدود، وتعتبر هذه الضمانات خطوة في الاتجاه الصحيح. وما لا تقر به الادارة الأميركية ولكن يعرفه القادة في الجيش والكونغرس هو أن هذه الخطة كلها تعتمد على ابقاء معظم القوة المكونة من حوالي 900 جندي أميركي في سورية وربما ارسال عدة مئات آخرين... كما أخبرني السيناتور لندسي غراهام الذي قال أيضاً إن ترامب يجب أن يعلن دعمه للمنطقة الآمنة وأن يعد بقيام الولايات المتحدة بدورها أيضاً.وقال: «يتعين على الرئيس أن يبلغ الحلفاء أننا لن نتخلى عن شمال شرق سورية، والناس في حالة تشوش وإرباك وقد حان الوقت لتوضيح الأمر».وقد أبلغني غراهام أن القادة العسكريين في الميدان يحبذون تقوية حضور القوات العسكرية «بالمئات وليس بالآلاف من أجل نجاح فكرة المنطقة الآمنة من دون التضحية بمهمة محاربة الارهاب أو دفع الأكراد الى أحضان حكومة دمشق».تحريك الخلايا النائمة
وفي غضون ذلك، عمد تنظيم داعش الى «تنشيط الخلايا النائمة» في سورية بحسب تقرير صدر عن المفتش العام في وزارة الدفاع الأميركية أخيراً. وسوف تكون القوات الكردية في حاجة الى مزيد من التدريب والتسليح من الولايات المتحدة – وليس العكس – كما أن التقرير حذر من وجود حوالي 45 ألف مؤيد لداعش في مخيم «الهول» الذي لا يخضع لرقابة الى حد كبير. وقد أوجز السيناتور غراهام مخاطر الانسحاب بصورة تامة قائلاً لنتخيل الوضع بعد سنة من الآن مع تحرك داعش في سورية وانضمام الأكراد الى الحكومة السورية وتوسيع ايران وجودها في سورية مشيراً الى أن هذه التطورات تشكل سجلاً أمنياً قاسياً بالنسبة الى ترامب. ومن وجهة نظر سياسية، اذا عاد داعش بقوة لأننا انسحبنا فإن ذلك سوف يحسب على ترامب مع القول انه لا يختلف على الاطلاق عن الرئيس السابق باراك أوباما.وصحيح أن حملات الرئيس ترامب تمحورت حول اخراج الولايات المتحدة من مستنقع الحروب في الخارج ولكنه أكد أيضاً أنه لن يكرر خطأ أوباما في العراق عندما انسحب بصورة تامة وترك فراغاً ملأه تنظيم داعش. وإذا كان على الرئيس ترامب أن يختار واحداً فقط من تلك الخيارات فإن عليه أن يختار ما يضمن سلامتنا وأمننا.والمسألة هنا ليست متعلقة بمغامرة عسكرية وتغيير نظام أو نفط أو غير ذلك من الجوانب التي يهاجمها معارضو أي استخدام للقوة في السياسة الخارجية – والمسألة تتعلق بسبل حماية مصالحنا القومية الحيوية التي تشمل محاربة التطرف اضافة الى محاولة منع سورية من أن تتحول الى مصدر أكبر لعدم الاستقرار والمأساة الانسانية التي يعيشها ذلك البلد في الوقت الراهن.