هل يطلق ترامب مصالحة في الشرق الأوسط دون قصد؟
أدى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 إلى انهيار النظام الجيوسياسي القائم في الشرق الأوسط، ومنذ ذلك الحين، تسود الفوضى في أنحاء المنطقة، وقد تزامنت مظاهر العنف وغياب الاستقرار في العقد الماضي مع نشوء قوى جيوسياسية محورية تحاول فرض توازن جديد.
صعّدت إدارة ترامب عداوتها غير المنطقية مع إيران حتى بلغت مستويات غير مسبوقة في الأسبوع الماضي، حين فرضت عقوبات على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف. صحيح أنها خطوة سخيفة وتتعارض مباشرةً مع ادعاء ترامب سعيه إلى نشر الديمقراطية، لكن من المستبعد أن تُغيّر حقيقة واضحة في المواجهة القائمة بين ترامب وإيران، حيث يبدو أن ظريف والإيرانيين هم الفائزون على المدى الطويل. لم يغفل حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي عن هذا الواقع، وبدأ بعضهم يتحرك على هذا الأساس، لكن في هزيمة ترامب انتصار للولايات المتحدة!كان الوضع الإيراني مضطرباً في شهر مايو من هذه السنة، فأعلن ترامب عن تصعيد بارز يتمثل في تخفيض صادرات النفط الإيرانية إلى أن تصبح معدومة، من خلال رفض تجديد الإعفاء من العقوبات في البلدان الأوروبية والآسيوية، وبما أن الاقتصاد الإيراني يعتمد بشدة على النفط، فقد لا تتمكن طهران من تحمّل كلفة الحرب الاقتصادية التي أطلقها ترامب وبلغت أعلى المستويات.منذ انتهاك الاتفاق الإيراني النووي قبل سنة، سعى ترامب إلى تدمير الاقتصاد الإيراني عبر إعادة فرض العقوبات. في البداية، كان الإيرانيون يأملون استمرار تجارتهم مع بلدان الاتحاد الأوروبي وحماية إيران من الحرب الاقتصادية، وهذا ما دفع طهران إلى الامتناع عن الرد على استفزازات ترامب، على اعتبار أنها تستطيع تحمّل الضغوط الاقتصادية إلى أن ينتهي عهده.
لكن الاتحاد الأوروبي اكتفى بمواقف إيجابية شفهية، وعملياً، كانت أوروبا أكثر حرصاً على تطبيق عقوبات ترامب بدلاً من التمسك بالتزاماتها بموجب الاتفاق النووي، لأسباب واقعية كثيرة، تخلّى الاتحاد الأوروبي عن إيران إذن. وحين صعّد ترامب إجراءاته عبر استهداف جميع صادرات النفط الإيرانية، كان صبر طهران تجاه الاتحاد الأوروبي قد نفد.وفي حين اتّجه ترامب إلى تضييق الخناق على إيران من خلال تدمير قطاعها النفطي، لم تعد طهران تستطيع تحمّل الألم من دون تحريك أي ساكن أو انتظار نهاية ولايته. لم تكن الاستراتيجية الأميركية الرامية إلى فرض أقصى درجات الضغوط مكلفة أبداً بالنسبة إلى ترامب حين كان يحاول القضاء على الاقتصاد الإيراني. بل كانت جميع المخاطر والتكاليف تستهدف الجانب الإيراني ولم يمس أي منها فريق ترامب. في ظل وضع مماثل، من المنطقي ألا يُخفف الرئيس الأميركي الضغوط أو يُغيّر استراتيجيته، لذا احتاجت إيران إلى قلب الطاولة عليه!بعد بضعة أسابيع من استهداف صادرات النفط الإيرانية، وقعت سلسلة حوادث لم تتضح ملابساتها بعد في الخليج العربي، فتعرّض عدد من ناقلات النفط لهجوم غامض. ربما كانت إيران وراء تلك الحادثة، أو يمكن أن تشير تلك الاعتداءات إلى مناورات خادعة من جهاتٍ تأمل في حصول مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة وإيران، لكن ما من أدلة جازمة حول أي من هذين الخيارَين.إذا كان الإيرانيون وراء تلك الاعتداءات، فذلك يعني على الأرجح أن مقاربتهم الرامية إلى مجابهة التصعيد الحاصل نجحت في إقناع جميع الأطراف المعنيّة بإعادة النظر في استراتيجيتها. اتّضح ذلك بعدما أسقط الإيرانيون طائرة أميركية بلا طيار زعموا أنها اخترقت الأجواء الإيرانية، حيث استعد ترامب لضرب إيران رداً على ما حصل، لكنه عاد وألغى العملية العسكرية في اللحظة الأخيرة وفق مصادر البيت الأبيض.يدّعي ترامب أنه غيّر قراره لأن عملية قادرة على قتل 150 إيرانياً لن تكون موازية لإقدام الإيرانيين على إسقاط آلية بلا طيار، لكن الإيرانيين من جهتهم يقولون إن ترامب تراجع بعد تلقي رسالة من طهران تُهدده بالرد عشوائياً على أي هجوم أميركي، ما يعني اندلاع حرب شاملة.تكمن الحقيقة على الأرجح بين هذين السيناريوهَين، فربما أوضحت البنتاغون أن طهران لن تهدأ بعد الهجوم الأميركي، بل قد تَرُدّ عبر مهاجمة أهداف أميركية في أنحاء المنطقة. أدرك ترامب إذن أنه يوشك على إطلاق حرب غير نافعة أخرى في الشرق الأوسط ويمكن أن تنعكس هذه الخطوة سلباً على فرص إعادة انتخابه، لذا تردد وألغى الهجوم. شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل محورية على الساحة الإقليمية، وبغض النظر عن حقيقة ما حصل قبل أن يلغي ترامب قرار الهجوم، أدرك المعنيون في المنطقة والخارج أن الرئيس الأميركي القادم من عالم تلفزيون الواقع ينسحب بدلاً من إطلاق النار في المواقف الحاسمة!بنظر حلفاء الولايات المتحدة العرب في الخليج، كان هذا التطور مريعاً، ولم يكن الرهان السعودي الإماراتي القديم على حصول مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران ليعطي النتيجة المرجوة يوماً، حتى أن البلدَين يواجهان الآن إيران المستاءة من دون الحماية التي ظنّا أنهما يتمتعان بها.يمكن أن يشرح تراجع ترامب ورسالة طهران إلى الإماراتيين انقلاب موقف الإمارات بشأن الحرب في اليمن منذ ثلاثة أسابيع، وقرارها المفاجئ بإرسال وفد سلام إلى طهران في الأسبوع الماضي، ورفضها لوم إيران على الاعتداءات التي استهدفت الناقلات، وذلك رغم استياء الرياض وواشنطن. هكذا جدّد البلد اهتمامه بالمساعي الدبلوماسية، بعدما كان يحمل ثقة مفرطة بنفسه، إذ يدرك الآن أنه لا يستطيع الاتكال على الولايات المتحدة للقتال نيابةً عنه. للوهلة الأولى، قد يوحي الوضع بهزيمة الولايات المتحدة، في وقت سارع الخبراء في واشنطن إلى التعبير عن استيائهم من فقدان المصداقية الأميركية كلما اضطر الأميركيون إلى قصف أحد البلدان. لم يفلت ترامب من هذا الانتقاد، صحيح أن هذه الأحداث كلها شكّلت ضربة قاسية لاستراتيجية ترامب الرامية إلى فرض أقصى درجات الضغوط، لكنها لم تؤثر فعلياً على الأمن القومي الأميركي عموماً.أدى الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 إلى انهيار النظام الجيوسياسي القائم في الشرق الأوسط، ومنذ ذلك الحين، تسود الفوضى في أنحاء المنطقة، وقد تزامنت مظاهر العنف وغياب الاستقرار في العقد الماضي مع نشوء قوى جيوسياسية محورية تحاول فرض توازن جديد.لكن قوة خارجية أضعفت هذه العملية ومنعت تقدّمها، هذا ما فعله الوجود العسكري الأميركي العشوائي في آخر 15 سنة، حيث تخبّطت واشنطن بين محاولات إعادة فرض الهيمنة العسكرية الأميركية في الخليج العربي وتغيير وجهة تركيزها الجيوسياسي. نتيجةً لذلك، نشأت سياسة مترددة وساد ارتباك استراتيجي عام. وحين أرادت الولايات المتحدة فرض نظام جديد، كانت تفتقر إلى القوة والمهارات الدبلوماسية لتحقيق هذا الهدف، وعندما أدركت أنها لا تتمتع بالقوة اللازمة، رفضت التنحي جانباً والسماح للمنطقة بإيجاد توازنها بنفسها.حثّت السعودية والإمارات الولايات المتحدة على إعادة فرض التوازن الإقليمي الذي كان سائداً قبل عام 2003، حين كانتا تستطيعان تنفيذ المناورات بكل حرية، تحت حماية الولايات المتحدة، بينما كان خصومهما في إيران والعراق ضعفاء ومعرّضين للعقوبات. طالما كان الأمل موجوداً بإقناع الأميركيين بإعادة فرض مفهوم «باكس أميريكانا»، أو «السلام الأميركي»، في الخليج العربي.في هذا السياق، ساهم الالتزام العسكري الأميركي الإقليمي في عدم إقبال السعودية والإمارات على المساعي الدبلوماسية مع إيران.لكن حين ألمح ترامب، ولو عن غير قصد، إلى عدم رغبة الولايات المتحدة في خوض حرب اختيارية مع إيران فربما يكون فتح المجال أمام إطلاق جهود دبلوماسية صادقة في المنطقة من خلال التنحي بكل بساطة.في نهاية المطاف، يمكن اعتبار هذا التطور انتصاراً للشعب الأميركي ومصالحه، حتى لو لم تكن القيادة الراهنة تعتبره كذلك. لم تعد الهيمنة العسكرية في الخليج العربي تفيد المصلحة الأميركية. صحيح أن الولايات المتحدة تُفضّل على الأرجح الحفاظ على الاستقرار، لكن يجب أن يتحمّل اللاعبون الإقليميون أولاً مسؤولية فرض النظام الجديد، بينما تؤدي الولايات المتحدة دوراً داعماً لكنه غير قيادي في هذا المجال. من المتوقع أن يكون الخليج العربي الذي يفرض نظامه الخاص أكثر استقراراً على المدى الطويل، كما أنه لن يُكلّف الولايات المتحدة الكمّ نفسه من الدماء والأموال!
في المواجهة القائمة بين ترامب وإيران يبدو أن الإيرانيين هم الفائزون على المدى الطويل