أمريكا تميل إلى ترجيح كفة الميزان بجنوب آسيا
سعى الرؤساء الأميركيون المتعاقبون إلى تحسين العلاقات مع الهند، بسبب نمو اقتصادها، وديمقراطيتها القوية، وفي الآونة الأخيرة، أصبح ينظر إلى الهند في بعض الأوساط على أنها شريك محتمل في تحقيق التوازن مع الصين الصاعدة، في الوقت نفسه، تدهورت علاقات الولايات المتحدة مع باكستان، بسبب برنامجها النووي وعلاقتها بحركة «طالبان».
عبارة ترجيح كفة الميزان كلمة لها تاريخ في جنوب آسيا، فمنذ نحو نصف قرن، قمعت حكومة باكستان بوحشية مواطنيها في الجزء الشرقي من البلاد، وتدفق ملايين اللاجئين إلى الهند التي حشدت قواتها المسلحة على الحدود. هجوم باكستان كانت له ردة فعل قوية من الهند، تلا ذلك حرب واسعة النطاق، وعندما انتهت الحرب، أصبحت باكستان مجزأة، وأصبح الجزء الشرقي منها دولة بنغلادش المستقلة.شاهدت الحكومة الأميركية هذه الأحداث بقلق، ولم تؤخذ مطالبة الهند بعدم الانحياز على محمل الجد، وحكم الرئيس ريتشارد نيكسون ومستشار الأمن القومي هنري كيسنجر بأن فوز الهند كان مكسبا للاتحاد السوفياتي، بالإضافة إلى ذلك، وقع نزاع جنوب آسيا في وقت كانت فيه الولايات المتحدة (بمساعدة باكستان) تسعى لإقامة علاقة مع الصين، فخشي نيكسون وكيسنجر أن تتراجع مصلحة الصين إذا بدت الولايات المتحدة غير مستعدة للوقوف في وجه الهند، وهي دولة يدعمها السوفيات وبلد خاضت معه الصين حربا قبل عقد من الزمن.أرسلت الولايات المتحدة حاملة طائرات إلى خليج البنغال، ظاهريا لردع المزيد من العمل العسكري الهندي، ولكن في الواقع كإشارة على الدعم الأميركي لباكستان، ولم يغير استعراض القوة مسار الأزمة، لكن قرار الولايات المتحدة بالميل نحو باكستان كان له أثر سيئ في الهند على مدى عقود.
استمرت واشنطن في تفضيل باكستان في أعقاب حرب 1971، كانت باكستان شريكا مقربا لأميركا في الجهود التي بذلتها لرفع التكاليف التي تكبدها الاتحاد السوفياتي بسبب احتلاله لأفغانستان، حيث تعاونت مع الأميركيين لتسليح المعارضة الأفغانية المحلية، ولكن مع نهاية الوجود العسكري السوفياتي في أفغانستان في فبراير 1989 - ونهاية الحرب الباردة بعد أشهر فقط - اختارت الولايات المتحدة إعادة النظر في موقفها تجاه الهند وباكستان.سعى الرؤساء الأميركيون المتعاقبون إلى تحسين العلاقات مع الهند، بسبب نمو الاقتصاد الهندي، وديمقراطيته القوية، وفي الآونة الأخيرة، أصبح ينظر إلى الهند في بعض الأوساط كشريك محتمل في تحقيق التوازن مع الصين الصاعدة. في الوقت نفسه، تدهورت علاقات الولايات المتحدة مع باكستان، في البداية بسبب برنامجها النووي، وبعد هجمات 11 سبتمبر 2001 الإرهابية، وأيضا بسبب علاقتها بحركة طالبان والمتطرفين الآخرين.والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كان التفكير في واشنطن العاصمة بدأ يتطور مرة أخرى نحو "ميل آخر"، فبعد قرابة عقدين من التضحيات، تبحث الولايات المتحدة عن مخرج من أفغانستان، وباكستان، التي وفرت ملاذا لـ "طالبان"، وعن سبل سحب قواتها دون تمكين الحركة من الإطاحة بالحكومة الأفغانية، في الوقت نفسه، هناك شعور بخيبة أمل من الهند بشأن سياساتها التجارية.ظهر الميل الجديد قبل أسابيع عندما زار رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان البيت الأبيض، فأصدر ترامب إعلانا مذهلاً بأن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قد طلب منه التوسط في نزاع كشمير، وهي القضية الأكثر حساسية التي تفصل بين الهند وباكستان منذ التقسيم والاستقلال عام 1947. مثل هذا الطلب المقدم من الهند سيمثل تحولا جوهريا في سياستها، وكانت الحكومة الهندية سريعة لإنكار أن مثل هذا الطلب قد تم تقديمه، تبع ذلك إعلان الهند أنها تخطط لتجريد جزء كبير من الحكم الذاتي لهذه المنطقة ذات الأغلبية المسلمة، وهناك احتمال بأن ترد باكستان من خلال تجديد دعمها للإرهاب، مما قد يؤدي إلى حرب أخرى بين باكستان والهند، وهما دولتان تملكان الأسلحة النووية.على هذه الخلفية، لن يكون من الحكمة أن تتجه الولايات المتحدة إلى باكستان كشريك استراتيجي، إذ ترى باكستان أن وجود حكومة ودية في كابول أمر حيوي لأمنها ومنافستها مع الهند، ولا يوجد سبب وجيه للاعتقاد بأن الأجهزة العسكرية والاستخبارية، التي تواصل إدارة باكستان تقويتها، ستكبح جماح طالبان أو تستبعد الإرهاب.وبالمثل، لن يكون من الحكمة عزل الولايات المتحدة للهند. نعم، للهند تقليد في السياسات التجارية الحمائية وغالبا ما يحس صناع القرار في الولايات المتحدة بالإحباط بسبب ترددها في التعاون الكامل في القضايا الاستراتيجية، لكن الهند الديمقراطية، التي ستتفوق على الصين قريبا كأكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان وستتميز بخامس أكبر اقتصاد في العالم، تعتبر رهانا جيدا على المدى الطويل، إنها شريك طبيعي للمساعدة في تحقيق التوازن مع الصين، وقد رفضت الهند المشاركة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، بينما تبنتها باكستان التي تعاني اقتصاديا.ولن يكون من الحكمة للولايات المتحدة السباق من أجل الخروج من أفغانستان، وتبدو محادثات السلام مع "طالبان" في الغالب وسيلة لإخراج القوات الأميركية من البلاد، وهي عملية تذكرنا بفيتنام، حيث وفر اتفاق سنة 1973 بين الولايات المتحدة وفيتنام الشمالية ذريعة للانسحاب الأميركي من الجنوب، ولكن لم يشكل ذلك أساسا للسلام. بدلا من تبني الخيال، على الولايات المتحدة الاستمرار في الاحتفاظ بعدد متواضع من القوات في أفغانستان لضمان بقاء الحكومة وعدم تحول البلاد مرة أخرى إلى ملاذ إرهابي، المطلوب استراتيجية التحمل، وليس استراتيجية الخروج، بناء على الظروف المحلية لا الأجندات السياسية، وكما كان الحال منذ فترة طويلة، فإن جنوب آسيا هي في أفضل الأحوال منطقة يجب إدارتها، وليست مشكلة يتعين حلها.* ريتشارد ن. هاس * رئيس مجلس العلاقات الخارجية ومؤلف كتاب «عالم في حالة فوضى».«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»