تجنيس أبناء الخليجية من منظور الأمن المجتمعي
المرأة ألطف الخلائق، هذا الإنسان الجميل الذي يفيض عاطفة ورقياً، ويملأ المحضن التربوي مودة وسكينة وأنساً، هذا المخلوق الرائع الذي يدين له التحضر البشري، أم الحضارة، هي من ترضع الثقافة واللغة والهوية والحب والرحمة والتسامح والمفاهيم كلها، ليتحول هذا الكائن الوليد إلى إنسان اجتماعي متحضر.ومع أن الإنسان مدين بوجوده للأبوين معاً، فإن رسولنا عليه الصلاة والسلام خصها بالفضل الأعظم، حين كرر: «أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك». الأم، نبع الحنان، ومصدر السعادة، وأصل الحب في هذه الحياة، ورمز التضحية والعطاء، لذلك حظيت بمكانة رفيعة في جميع الأديان السماوية والوضعية.
المرأة الخليجية، اليوم، شريكة كفؤة في مشاريع التنمية، تقلدت مناصب قيادية، وأصبحت تمارس كل حقوق المواطنة كالمواطن الرجل تماما، إلا حقاً واحداً، أبت التشريعات الخليجية أن تمنحها إياه «حق منح جنسيتها لأبنائها».ومع أن دساتيرنا نصت على حقوق المواطنة المتساوية للجنسين، ودولنا صادقت على المواثيق الحقوقية الدولية وبالأخص، مكافحة جميع أشكال التمييز ضد المرأة، والتشريعات الخليجية تطورت لتواكب التحولات الاجتماعية التي جعلت المرأة شريكة رئيسية في نهضة الوطن، فإن تشريعات الجنسية مازالت محصنة من التغيير أمام منح المواطنة الحق كالمواطن! ما تفسير ذلك؟!أغلب التفسيرات ترى أن الموروث الماضوي الاجتماعي القبلي (أعلوية الرجل) لا يزال حاكماً للحياة الخليجية وتشريعاتها، رغم كل مظاهر التحديث الخليجي، هذا الموروث الحاكم جعل حق الجنسية حقاً «سيادياً» للرجل وحده! ورغم وجاهة التفسير وقوة حجيته، فإن دراسة متميزة أعدتها الناشطتان القطريتان آمنة المري، ومريم الهاجري، بعنوان «هل تعاني المرأة القطرية من مشاكل حقوقية؟» نشرت في موقع «نُون العربية» ذهبت إلى تفسير آخر، حيث حمّلت «المؤسسات الرسمية» المسؤولية الرئيسية في ترسيخ التمييز ضد المرأة، وذكرت أمثلة أخرى مثل تجديد جواز السفر بموافقة ولي الأمر، ومنح أراضي السكن للمواطن دون المواطنة، وتهميش المشاركة السياسية للمرأة، وانتهت الدراسة إلى أن ترديد القول بأن المشكلة مجتمعية بالدرجة الأولى حجة باطلة، لأن المؤسسات الرسمية هي التي تساعد في بقاء الوضع الحالي. أتصور أن الشكوى أو اللوم ليسا حلاً، والجهات الرسمية هي في النهاية جزء من النسيج المجتمعي المحكوم بالموروث، والأجدى البحث عن مخارج أخرى وابتكار مقولات يتغير معها الوعي المجتمعي العام، الذي يسهم بدوره في إيجاد حل. حق المواطنة في منح جنسيتها لأولادها قضية عادلة ومشروعة، لكني أودّ مناقشة هذه القضية من منظور آخر أراه أكثر أهمية وخطورة، أريد أن أرتقي بالنقاش من منظوره الحقوقي والإنساني إلى المنظورالسياسي والاجتماعي والأمني. في تصوري أن للقضية بُعداً استراتيجياً أعمق، يتعلق بمعالجة الخلل السكاني المتزايد، والذي جعل الخليجيين أقليات في أوطانهم، وسط بحر لجي من بشر يتدفقون من دول الفائض البشري يبتغون رزقاً وأمناً، وأصبح الخليج أشبه بمعسكرات عمل، الخليج اليوم أمام استحقاقات وتحديات عديدة، وترك الأمور لتفاعلات الزمن يزيدها تعقيداً. قضايا تعزيز المواطنة المتساوية، وتقوية الجبهة الداخلية، وتصحيح الخلل السكاني، قضايا مترابطة تشكل أهم مقومات «الأمن الخليجي» وجميع السياسات ينبغي أن تكون في خدمة هذه القضية المصيرية.منظوري لقضية حق الخليجية في منح جنسيتها لأبنائها، سواء لأب خليجي أو غيره، يقوم على بعدين: الأول أن دول مجلس التعاون تعيش وضعاً سكانياً واقتصادياً غير طبيعي، وغير متوازن، بأغلبية ذكوريّة هائلة، وأقلية مواطنة، ومورد ريعي أحادي.أما الثاني فيتمثل في تعاظم المخاطر المحيطة بالخليج، وتزايد مهددات الأمن الوطني الخليجي.أخيراً، إن من أبرز وسائل تحصين الداخل الخليجي، وتعزيز الهوية الوطنية، وتصحيح التركيبة السكانية تفعيل مفهوم المواطنة المتساوية بين الجنسين، وإلغاء التمييز بين الأصلي والمتجنس في الامتيازات المادية، وتعديل النص المتعلق بتوارث التجنيس ليصبح ابن المتجنس أصلياً، وتجنيس أبناء الخليجية المتزوجة من غير مواطن، إلى جانب تجنيس كل المستحقين من المولودين على الأرض الخليجية، وتجنيس الكفاءات الوافدة، فضلاً عن تشجيع التزاوج الخليجي، وتفعيل وسائل تكثير النسل الخليجي.* كاتب قطري