همست الموجة للنسمة: «قولي لهم إنني هنا في انتظارهم»، فهو الصيف والحر والبحث عن بقعة محاذية للبحر، بل شواطئ ممتدة تستقبل من خاطبتهم الموجة لتغويهم إلى حضنها وتردد: تعالوا فاغتسلوا من شتاء طويل وصيف لا يعرف سوى العرق. فجأة تتحول الشواطئ إلى مدن شديدة الزحام، يأتي المصطافون متخففين من أحمال ملابسهم وتاركين كثيراً من الهموم خلفهم في تلك المدن البعيدة التي تشهد هجرة جماعية منها في كل صيف، فتصبح للبعض كمدن الأشباح ولآخرين بأجمل فصولها كلها، حيث تخف الزحمة وتخلو الشوارع من الضوضاء، ويمضي الباقون من غير المصطافين إلى بيوتهم يحتمون من حرارة الشمس الحارقة، وهناك على البحر يستحم الآخرون في البحر والشمس معاً ليكتسبوا لوناً يشبه أرضهم التي كانوا يزرعون.
يجري الذكور إلى الشواطئ ويرمون بأنفسهم في حضن الموجة، يكثرون من اللعب والضحك ويغتسلون من حر شديد لا يفصلهم عنه سوى الرمال الساخنة على الشاطئ، حيث تفترشها النساء يتأملن كل هذا الاحتفال بمداعبة البحر وهن مرتديات كل ما كثر من قماش من رؤوسهن حتى الأقدام، وعادة ما يكون اللون الأكثر شيوعاً بينهن هو الأسود الأكثر امتصاصاً لحرارة الشمس!ينتظرن بحرقة والعرق يبلل ملابسهن فتلتصق حتى تبرز كل المفاتن التي كن يحاولن إخفاءها عن أعين «المتطفلين»، ومع نزول الشمس تدريجياً قد تتجرأ إحداهن فتقتحم تلك المساحة المخصصة للرجال، ألم يصبح البحر للرجال فقط؟! فيرتدي بعضهن المايوه الشرعي كما يحببن تسميته ويجرين نحو الموجة فتهمس لهن: لن تسمح مثل هذه الملابس بأن تطفأ حرارة جسد تسمر فوق الرمال الحارقة ساعات النهار الطويلة! وهن في جلوسهن هذا يحتسين كل المشروبات المثلجة بحثاً عما يطفئ ذاك الغليان، تقتحم نساء وفتيات أخريات البحر، يداعبن الموج ويمارسن الرياضات المائية كما الرجال... فما يكون من نساء الشاطئ الملتهب إلا أن يمصمصن شفاههن منتقدات تلك النسوة «الفاسقات» أو على أقل تقدير غير المحتشمات! هنا اقتنعن بما قال لهن أزواجهن بأن البحر للذكور والشاطئ للنساء وأنهن إذا أردن النزول إلى البحر فلابد أن يكون ذلك تحت عتمة الليل كما كل شيء في تلك المجتمعات، كل التناقضات... أن تفعل الشيء في النور حرام حرام، أما إذا أخفيته في الظلمة فهو حلال! يخضع الكثير من النسوة لتفسير كهذا ويلتزمن به فيما كل المنطق والعقل والعلم وحتى الدين لا تأمر بتعذيب النفس... أليس في وجودهن على الشواطئ الساخنة تعذيب للنفس؟! وإلا فلمَ لا تذهب النساء في الصيف الحارق بحثاً عن بقعة تمنحهن بعض البرودة المستحبة في مثل هذه الأيام الحارقة في مدن الأسمنت؟! لمَ لا يبعدن عن الشواطئ التي لا تعرف سوى نداء الموجة ولا يطفئ نار الصيف عندها سوى ماء البحر المثلج في الكثير من الأحيان حتى يقشعر البدن؟!كانت الشواطئ قديماً ملونة، وكانت النسوة يتمشين بالمايوهات التي تسميها الصحافة الصفراء اليوم «الفاضحة» وتطارد المشاهير من النساء فقط لتفرغ كثيراً من تخلفها ونظرتها الضيقة وكبتها أو كبتهم سعياً وراء الإثارة حين اختفت كل أنواع الفنون والنماذج الصحافية المحترمة وتركت الفضاء للزبد وما تجرفه الموجة من وسخ البحر وفضلات زواره.أصبحت الشواطئ اليوم أحادية اللون ومكررة المظهر وتحول شعر المرأة إلى عورة عليها أن تخفيها دوماً وإلا أثارت غرائز الرجال الذين لا تفكير لهم سوى اصطياد فريسة إما بنظرة أو لمسة، وكلها جارحة، وكل ذلك تحقير للرجال على أنهم كائنات غرائزية! تبرر الكثيرات تحملهن لكل هذا العذاب على أنه «حر الدنيا ولا حر الآخرة!!» لكل واحدة منهن تفسيرها الخاص لكل هذه العلاقات المشوهة التي تبرز بشكل واضح عندما تستدعيهن الموجة فلا يستجبن بل ينكفئن على أنفسهن عند خاصرتها ينظرن إليها من بعيد، والخوف يملأ عيونهن، مرة خوفاً من أن ينتبه أحدهم إلى الرغبة المدفونة لرمي أنفسهن في ماء البحر، ومرات خوفاً مما قيل لهن عن عذاب جهنم! كل مواقفهن مبنية على عدد من التهديدات وعبارات التخويف ليس إلا... لا شيء عن التسامح والمغفرة والمحبة وتكريم الإنسان فوق كل المخلوقات.تنادي الموجة كثيرات منهن، ويبقين هن عند الشاطئ خوفاً من شيء ما!* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
همس الموجة... وخوفهن! *
19-08-2019